كانت المشكلة الكبرى للناس الذين لم يغادروا دولة الكويت بعد احتلالها سنة 1990 من قبل الجيش العراقي هو تدبير لقمة العيش (رغيف الخبز) له ولأولاده ولمن يعيلهم لأن الجيش العراقي في ذلك الوقت كان قد سيطر على كل المخابز التي كانت تعمل في الكويت وعلى كل مراكز بيع الخبز فيها وبهذا يكون هذا الجيش قد جعل الناس تزداد جشعاً وطلباً للخبز دون أن يدري طبقاً للقاعدة الذهبية التي تقول:كل ممنوع مرغوب.
أحد طوابير الخبز بعد إحتلال الكويت
ونظراً لعدم وجود الفواكه والخضار فقد إزداد إعتماد الناس على هذا الخبز أكثر من العادة وتضاعفت المشكلة أكثر بعد أن تقررت حصة الشخص الواحد بأربعة أرغفة في المرة الواحدة بعد أن ينتظم هذا الشخص في طابور طويل له أول وليس له آخر ويمتد لساعات طويلة قد تصل إلى أربع ساعات في بعض الأيام فاضطر كل ساكن في الكويت أن يأخذ زوجته والكبار من أولاده كي يجمعوا أكل يومهم.
محطة مياه السالمية
وفي أحد الأيام كنت قادماً من جهة دوّار (البدع) في السالمية مُتجهاً إلى طريق الدائري الخامس أبحث عن مخبز زُوّاره قليلون نسيباً، لعلني أستطيع أن أشتري منه ربطة من الخبز أو ربطتين ليوم قادم أو يومين، وعندما وصلت نقطة التفتيش (السيطرة) التي كان قد نصبها الجيش العراقي مقابل محطة مياه السالمية مباشرة، وهذه السيطرة كانت مميزة عن مثيلاتها من نقط التفتيش بكثرة عدد أفرادها وآلياتها وضباطها وبوجود خيمة أو خيمتين يجلس وينام فيها الضباط المناوبون.
الباص المسروق
وعندما إقتربت من نقطة التفتيش هذه كان أمامي باص جديد يقوده مواطن عراقي ومرافق له وعندما مر هذا الباص عن نقطة التفتيش تكلم مع الجنود العراقيون بلهجتهم الخاصة فسمحوا له بالدخول وفي تلك اللحظة خرج الضابط المناوب من خيمته فلمح الباص وهو يمر من أمام هذه السيطرة فسأل الجنود المناوبين على الفور: من أين له هذا الباص؟ وكيف سمحتم له بالمرور؟ وعلى الفور طلب من جنديين بجانبه أن يلحقا بهذا الباص ويحضراه في الحال وأسرع الجنديان المسلحان على أول سيارة بعد الباص فكانت سيارتي.
وقال لهم رئيسهم: جيبوه
فما كان من أحد هذين الجنديين إلا أن قام بفتح باب سيارتي الأمامي (دون إذني) وجلس بجانبي مادّاً بندقيته على فخذيه فوصل رأسها إلى بطني أما الثاني فقام بفتح الباب الخلفي وجلس في المقعد الخلفي من السيارة وطلبا مني بلهجة عسكرية اللحاق بالباص وبسرعة فما كان مني إلا أن دُستُ على دواسة البنزين بشدة أكثر إلى أن وصلنا دوار الجوازات وهناك سيكون أمامي أربعة خيارات لحركة الباص المطارَد فأيّ الطرق سأختار؟سألت الجنديين عن أي الطرق أسلك؟ فأجابني الجندي الذي يجلس بجانبي بشئ من اللامبالاة وقال: تأكد أننا لن ننزل من سيارتك هذه إلا على الباص حتى لو امتد بنا الطريق إلى بغداد فعليك أنت أن تختار الطريق المناسب وأنت حر في الإختيار لأنك تعرف الكويت أكثر منا.
كان عليّ أن أختار الطريق المناسب
عندها بدأت أحاور نفسي بنفسي وأقول: لصوص الباص مسلحون ومن معي من العسكر مسلحون أيضاً وسأذهب أنا وسيارتي ضحية أي إشتباك يحدث بينهما لهذا علي أن أتحاشا هذا الإشتباك مهما كلفني الثمن فما كان مني إلا أن أسلمت نفسي وسيارتي لله سبحانه وتعالى ليخلصني من هذا البلاء العظيم الذي نزل عليّ من السماء داعياً في سري أن يُلهمني الصبر والثبات وأن يساعدني في اختيار الطريق المناسب الذي سيؤدي بنا إلى اللحاق بهذا الباص لتنتهي هذه المغامرة بسرعة.
دورية عسكرية متحركة بالقرب من شارع عمان
واستجاب لي الله في الحال بعد أن ألهمني ربي عز وجل أن أسلك الطريق الذي يؤدي إلى الدائري الخامس وهناك وجدت نقطة تفتيش عسكرية متحركة عند بداية شارع عمان كانت قد أوقفت هذا الباص للتفتيش عندها أمرني الجندي الذي يجلس بجانبي بالوقوف السريع ونزلوا من سيارتي وألقوا القبض على هذا الباص ومن فيه وعندها حمدت الله على تخليصي من هذه الورطة واستغنيت عن شراء الخبز في ذلك اليوم وذهبت إلى البيت سالماً لكنني لست غانماً بالخبز الذي خرجت من أجله.
محافظة دهوك في شمال العراق
وما أن وصلت البيت والتقيت بالجيران وحدثتهم بما حصل معي في هذا اليوم لم يندهشوا مما كان قد حصل معي بل قال أحدهم: يجب عليك أن تشكر الله كثيراً فأنا مثلاً أخذوا مني أوراقي الثبوتية من على أحد هذه السيطرات المنتشرة هنا وهناك وبعدها أرغموني على توصيل (جثة) إلى أصحابها في بغداد بعد أن أعطوني العنوان كاملاً فما كان مني إلا أن حمدت الله ثانية عندما قارنت نفسي بغيري ولم يكن مشواري إلى البصرة أو إلى مدينة دهوك في الشمال الكردي مثلاً.
أرأيتم يا سادة يا كرام كيف جعلوني مسؤولاً عن سرقاتهم؟ لا بل طالبوني باستردادها؟ وجعلوا جاري يتمنى أن يكون الموت لقريب الدار وأن يطيل الله في عمر بعيد الدار ليسهل عليه المشوار.
أثناء عودتي إلى بيتي بعد زيارة خاطفة لصديق لي في منطقة (خيطان) أثناء الإحتلال العراقي للكويت وإذا بجندي عراقي يتخذ من شارع فرعي في منطقة خيطان مقرّاً له كي يبتعد عن أعين الشرطة العسكرية العراقية وعندما أصبحت على مقربة منه وإذا به يشير لي بيده للتوقف فوقفت وبادرته بالقول:خيراً إن شاء الله قال:عيني أنا من (دهوك) كنت قد أخذت إجازة وأريد السفر إلى أهلي هناك ولا أملك أجرة الطريق!فهل لك أن تساعدني في الوصول إلى بلدي؟.
الحرب قد بدأت ولا نعرف نهاية لها
فوجئت بطلب هذا الجندي الذي لا يمكن لي أن أتوقعه وأجبته على الفور:إن الحرب يا سيدي قد بدأت ولا نعرف نهاية لها وأنا لا أملك نقوداً تزيد عن حاجتي كي أعطيك لكنني أستطيع توصيلك إلى أي مكان في مدينة الكويت ترغب في الوصول إليه فوجىء هذا الجندي بكلامي هذا وكأنه لم يكن يتوقعه (والسبب في ذلك أنهم كانوا قد أفهموه قبل دخوله للكويت بأن كل من يعيش على أرض الكويت جيوبه متخمة بالفلوس) وعلى الفور تغيّرت ملامح وجهه وبشيء من الغضب قال:شكراً عيني وأدار بوجهه عني وخفض من صوته (وكأنه لا يريد أن يسمعه أحد) وقال:لقد سئمت الكويت بمن فيها.
صواريخ صدام التي كان قد أطلقها على الكيان الصهيوني
بعد هذا الموقف الذي رأيته بأم عيني وسمعته بأذني صحوت من حلمي الجميل الذي كانت قد صنعته لي (ولأمثالي) الصواريخ التي كان قد أطلقها الرئيس العراقي صدام حسين على الكيان الصهيوني أثناء حرب الخليج وإذا بهذا الحلم الجميل الذي كان قد أوصلني إلى أرض فلسطين بين ليلة وضحاها يختفي مرة واحدة كالسراب أمام ما حدث معي ومع هذا الجندي العراقي الذي تُرك على أرض الكويت (عارياً) بلا ماء ولا طعام ولا مواصلات ولا فلوس.
صواريخ عبدالناصر التي أوصلتنا إلى دول الخليج
وبعد أن تركت هذا الجندي العراقي سألت نفسي في الحال:كيف لهذا الجندي وأمثاله من الجنود العراقيين أن يُحرروا لنا بلادنا فلسطين وهم في هذا الحال؟وبعد أن أجبت نفسي بنفسي تذكرت في الحال صواريخ الرئيس المصري جمال عبد الناصر (القاهر والظافر)التي كانت السبب في إقتلاعنا من أرضنا وهجرتنا إلى بلاد الخليج.
أحد صواريخ القسام
وبعد أن أثبتنا وجودنا في دول الخليج العربي بالجهد والعرق وأصبحنا قوة سياسية وإقتصادية يحسب حسابها في المنطقة لا يستطيع كائن من كان أن يخرجنا من هذه الدول جاءت صواريخ الرئيس العراقي صدام حسين لتُخرجنا من دول الخليج مجتمعة بكل سهولة ويسر وترسلنا إلى المجهول وأصبحنا بعد ذلك ننتظر (الجنة) التي وعدتنا بها صواريخ القسّام.
كنت في أحد أيام إحتلال الجيش العراقي لدولة الكويت أبحث عن أي دكان في منطقة الشويخ يقبل أن يبيعني (سجائر) بعد أن أخفاها تجارها ليرفعوا من سعرها وذلك بعد أن إنتشر الجيش العراقي في دولة الكويت فوجدت نفسي أقف أمام (بك أب) مكشوفاً وعلى ظهره أشياء غريبة لكنها مُتماثلة فلم أتمكن من التحقق منها عن بعد فقررت أن أقترب من هذا البيك أب أكثر لأتعرّف على ما يحمله على ظهره وذلك من باب حُبّ الإستطلاع ليس إلا.
قد يكون نوعاً من أنواع الخبز وأعدتها إلى مكانها
وعندما وصلته تناولت واحدة مما يحمله على ظهره بيدي اليمنى وقمت بالضغط عليها كي أتفحصها فلم أستطع فاستعنت باليد اليسرى فوجدت ما بيدي أصلب من حجر الصوان لكنه مع ذلك خفيف الوزن فقلت في نفسي:قد يكون نوعاً من أنواع الخبز وأعدتها إلى مكانها وإذا بجندي عراقي أظنه السائق يصيح عليّ من بعيد وبأعلى صوته عندما رآني قد لمست أشيائه الموجودة في شاحنته الصغيرة حيث قال:ماذا تريد يا رجل؟وعن ماذا تبحث؟.
أكلة السردين
إلتقطتُ واحدة من على ظهر الشاحنة ورفعتها له بيدي وسألته باستهجان عن الذي أحمله بيدي فردّ عليّ قائلاً:هذا (صمّون) عراقي عيني يا للعجب هل يوجد عراقياً لا يعرف الصمّون العراقي؟أكيد أنك لست عراقياً لأن الشعب العراقي كله يعرف الصمون الذي منه إستمد ويستمد قوته على الدوام فهذا الصمون هو الذي جعلنا ننتصر على الفرس والمجوس في الماضي الذي هو ليس بالبعيد وعلى المستعربين من عرب الخليج هذه الأيام وهو الذي سيجلب لنا النصر على أعدائنا الجدد (أكلة السردين).
هذا هو تموين الحيش العراقي عندما احتل الكويت
هذا هو تموين أفراد الجيش العراقي عندما إحتلّ دولة الكويت فقط صمّون يُشبه الخبز وما هو بخبز ومن من أفراد هذا الجيش يُريد غير ذلك عليه أن يتدبره بنفسه كل كما يحلوا له نسيت أن أنبّه القارئ إلى أن الأخ السائق هذا كان يحمل معه تموين مجموعة كبيرة من أفراد الجيش العراقي الذين يرابطون على أرض الكويت في انتظار قوات التحالف يلفّ ويدور في الأسواق عله يجد ما يبحث عنه مثلي.
وجبة الجندي من قوات التحالف
وبعد أن حررّت قوات التحالف دولة الكويت من قبضة الرئيس العراقي صدام حسين إستطعت أن أحصل على وجبة الجندي من قوات التحالف التي كانت تسقط عليه من السماء وهي مكيسة بكيس من البلاستك الشفاف رُقمت عليه مُحتويات هذه الوجبة وقمت مرة وعددت هذه المحتويات فوجدتها تصل إلى سبع عشرة قطعة فقط لا غير تبدأ بكوب الماء البارد وتنتهي بمادة بيضاء قابلة للإشتعال لتسخين كوب الشوربة الموجود فيها.
مذيع صوت العرب من القاهرة أحمد سعيد
وعلى الفور عادت ذاكرتي إلى ربع قرن كان قد مضى إلى الوراء دون أن تستأذنني فتذكرت (أحمد سعيد) مذيع صوت العرب من القاهرة قبيل حرب 1967 وهو يطلب من السمك والسردين في البحار والمحيطات أن يجوع كي يُطعمه وجبة دسمة من لحوم أعدائنا الصهاينة ثم عادت بي الذاكرة إلى هذه الأيام بعد أن تمكن مذيعونا الأفاضل أن يقنعوا أفراد جيوشهم العربية بأن الجوع أفضل لهم ألف مرة من أن يأكلوا سمك السردين المعلب.
اشتعلت الحرب على أطراف مدينة الخفجي في المملكة العربية السعودية بين الجيش العراقي وقوات التحالف الدولي ضد العراق وأصبح الناس وأنا منهم ينتظرون ويراقبون الموقف على أحرّ من الجمر!وفي أحد تلك الأيام التي كنا ننتظر فيها ساعة حسم هذه المعركة كنت واقفاً على شرفة بيتي لقتل الوقت ليس إلا وإذا بـجيب عسكري عراقي قادم من بعيد باتجاهي وعندما راقبته أكثر وجدته يقترب مني رويداً رويداً فقلت في نفسي:هذه منطقة سكنية لا تحتاج لمثل هذا الجيب العسكري العظيم فلماذا هو قادم في هذا الصباح الباكر؟ربنا يُستر.
نزل من الجيب ضابط كبير وقام بفك إطارها الأمامي
وبدأت أراقبه لأرى إلى أين يُريد أن يصل؟وإذا به يقف فجأة!مما جعلني أتسائل مع نفسي:أيعقل أنه رأى جندياً أمريكياً وأراد القبض عليه؟لكنني لم أر ولم أسمع عن أيّ إنزال أمريكي في حيّنا وعندما أمعنت النظر أكثر وإذا به يقف أمام صيد سمين بالنسبة له إنها سيارة BMW وما هي إلا لحظات حتى نزل من هذا الجيب ضابط كبير يُعلق على كتفه وصدره نجوماً ونياشين لو صُهرت وأعيد تشكيلها لبيعت في سوق النحاسين وقام بفك إطارها الأمامي الأيمن وحمله بين يديه ووضعه في الجيب وتابع طريقه وكأنّ شيئاً لم يكن.
دوّار شارع عمّان في السالمية
سئمت من وقفتي على البلكون تلك وأحببت أن أغيّر المنظر ولم يكن أمامي من حل إلا أن أذهب إلى دوّار شارع عمّان في السالمية مشياً على الأقدام لأنه المكان القريب الوحيد الذي أصبح الناس يتجمعون فيه طوال النهار من أجل البيع والشراء بعد أن تحول هذا الدّوار إلى سوق كبير يعرض كلّ شخص فيه بضاعته وقد تصادف أن وصلنا الدوّار معاً أنا وحضرة الضابط الكبير بعد أن ركن سيارته العسكرية وبداخلها الإطار المسروق على جانب الشارع.
أحببت أن أمرّ عليكم لطمأنتكم عن الأوضاع
فوجئ الناس بقدوم مثل هذا الضابط الكبير إلى هذا المكان الشعبي فتوسّموا به خيراً وتحلقوا حوله وبدؤوا يمطرونه بأسئلة عن أحوال الجبهة المُلتهبة في مدينة الخفجي لعله يحمل لهم أخباراً سارّة فقال لهم هذا الضابط:لقد ذبحنا الكفرة!وسيصدر بيان لاحق من القيادة العامة للقوات المسلحة بذلك وسترونهم بأعينكم جيفاً مُقطعة أوصالها على شاشات التلفزة العالمية فأنا قادمٌ للتوّ من مدينة الخفجي لكن بمهمّة عسكرية خاصة وبعد أن أنجزتها أحببت أن أمرّ عليكم لطمأنتكم عن الأوضاع هناك ثم أعود لأواصل طريقي للشهادة فأخذ الناس يُكبّرون ويُهللون ويهتفون وتحمّس أحدهم وصاح بأعلى صوته:بالرّوح بالدّم نفديك أبو عُدي وبعد أن أنهى طالب الشهادة هذا كلمته الموجزة أخذ ما يُريد من السوق مجّاناً وذهب ليبحث له عن سوق آخر.
المطربة ليلى نظمي
أما أنا فتذكرت على الفور أغنية للمطربة ليلى نظمي كانت تذاع في نهاية القرن الماضي عندما كانت تظهر نتائج الثانوية العامة في معظم الدول العربية وفيها تصيح المُطربة بأعلى صوتها:جايين منين؟فيردّ عليها الكورَس بصوت أعلى:من الثانوية وتُتابع المطربة أغنيتها وتقول:رايحين فين؟ويجيبها الكورَس ثانية:على الكلية فتمنيت على حكوماتنا العربية اختصار هذه الأغنية لتصبح:جايين منين؟من الجبهة ورايحين فين؟على الجنة وتعميمها على قواتنا المسلحة ليحفظوها عن ظهر قلب في الحروب الداخلية القادمة.
تخيل نفسك عزيزي القارئ أنك تقود مركبتك في أي شارع من شوارع أي بلد في هذا العالم الواسع واقتربت من نقطة تفتيش فماذا تتوقع أن يطلب منك الشرطيّ المُتواجد على رأس عمله؟وإذا حصل بينك وبين هذا الشرطي حوار فهل تستطيع أن تتخيل موضوع هذا الحوار؟ لن أنتظر منك جواباً على هذين السؤالين لأنني كسائر عباد الله أعلم جوابهما سلفاً سيطلب منك ذلك الشرطي أوراقك الثبوتية وأوراق سيارتك ليقوم بتدقيقها ويُعيدها إليك مشكوراً.
قسمت نقطة التفتيش الشارع إلى قسمين
إلا في الكويت بعد إحتلالها آنذاك فقد تحوّل إسم (نقطة التفتيش) لتصبح (سيطرة) وهذه السيطرة تقسم الشارع إلى قسمين: قسم للعامّة أمثالي وقسم آخر V.I.P وتحوّل الشرطيّ إلى جندي بلباس الحرب وعندما تمر على إحدى نقاط هذه السيطرات فلن يسألك هذا الجندي عن أي شيء يخصّ الأمن ولا حتى عن الوطن نفسه لأن لباسه الحربي يفرض عليه أن يكون فوق هذه الأسئلة البسيطة فهو مُجهـز للحرب وساقته ظروفه بالغلط ليكون في هذا المكان وينوب عن الشرطي الذي غاب عن مكانه.
أبشري يا فلسطين
وفي أحد الأيام كنت قد إقتربت من أحد هذه السيطرات وعندما رأيت ما رأيت من جنود وضباط في لباسهم الحربي المُخيف تسارعت دقات قلبي وتسائلت في نفسي: إذا كان العراق قد وضع كل هذا العدد الهائل من الجنود والضباط على نقاط السيطرة في المدن فما هو عدد الجنود المحاربين يا ترى؟ أبشري يا فلسطين وانتظري فما هي إلا أيام ويدخلوك منتصرين وبدأت أنتظر حربهم القادمة مع اسرائيل وأقول في نفسي:قواكم الله ونصركم على أعدائكم كي تنصرونا على أعدائنا بعد ذلك.
ما هو مقاس إطار سيارتك عيني؟
وعندما وصلت إلى نقطة السيطرة أبرزت له أوراقي وأوراق سيارتي معاً ظناً مني أنه سيطلبها جميعاً، لكنه لم يلتفت إليها ولم يعرها أي اهتمام بل بادرني بسؤال لم أكن أتوقعه ولم أكن أعلم جوابه في ذلك الوقت عندما قال لي: ما هو مقاس إطار سيارتك عيني؟قلت له: لا أعلم ودققّ النظر في عجلات سيارتي وقال: مقاسها 15 عيني أتريد أن تشتري لها إطاراً بسعر أرخص من السوق؟ قلت له: لا أريد شكراً قال: إذن إحفظ مقاس إطار سيارتك لأنك ستُسأل عنه في السيطرة القادمة قلت له: شكراً لكم فقد علمتمونا الكثير الكثير وليس مقاس الإطارات فقط. وقبل أن أحرّك سيارتي نظر بداخلها فوجد بداخلها مسابح كثيرة مُعلقة في مرآة السائق فطلب مني واحدة فأعطيته.
شكراً عيني الله وعليّ ويّاك
أما أنا فقد كنت قد دخلت السيطرة وأنا أدعو لهم بالنصر وغادرتها وأنا مشبع بالهزيمة والإحباط مُعترف بجهلي السياسي وبدأت أحلامي تتقلص إلى أن مررت على سيطرة ثانية فلم أحضّر أوراقي هذه المرّة ولم يسألني جندي السيطرة حتى عن مقاس الإطار كما في السيطرة السابقة بل عرض عليّ على الفور إطاراً مقاس 17 لسيارتي فقلت له: أنا آسف فمقاس إطار سيارتي 15 وخذ مسبحتك التي كنت قد نسيتها في سيارتي فأنا حفظت الدرس جيداً فقال: شكراً عيني الله وعليّ ويّاك.
بيضة
وبعد أن غادرت السيطرة الثانية قررت إلغاء مشواري في الحال والتنازل عن ما كنت ذاهب من أجله واتجهت إلى البيت سالكاً أحد الشوارع الخلفية كي لا أمر على سيطرة ثالثة ولسان حالي يقول: كيف حصل هذا الجندي على هذا الكم الهائل من الإطارات وبمختلف المقاسات؟ ومتى حصل عليها؟ وأين يُخزنها؟ أرأيتم كيف خُلطت أوراق الوحدة العربية بالجريمة؟ أرأيتم كيف رُبط النصر بالقهر؟ وكيف سُرقت أحلام أمة؟ أعلمُ أنّ منْ يسرقُ بيضة ليأكلها تُقطع يده، لكنني لا أعلم عقاب من يسرق حُلم الأمة؟.
عندما تقرع أجراس الحرب تبدأ القوانين التي كانت سائدة بالزوال تدريجياً وتحل الأنانية بدلاً منها بين الناس وتتغير النفوس ويصبح الشعار السائد بينهم:اللهم أسألك نفسي والمدخنون عادة هم الفئة الأكثر تأثراً بين فئات المجتمع بالحروب وما أن يستشعروا بقدومها حتى يسيحون في الأرض بحثاً عن مزيد من السجائر لتخزينها للأيام القادمة والتي لا يعرف أحد نهاية لها ويستغلّ الباعة غياب الرقابة الحكومية والحالة النفسية للمدخنين ويُغيّبون الرقابة الإلهية على أنفسهم ويقومون بإخفاء السجائر ليرفعوا سعرها لأنهم يعتقدون أنهم مهما رفعوا من سعرها فهناك من سيدفع ويشتريها.
وصلت شحنة من السجائر الهندية
هكذا أصبحت حياتنا في الكويت بعد 2 أغسطس 1990 الناس تشتري لتخزن والباعة يُخفون البضاعة لكي يرفعوا سعرها بدون رقيب أو حسيب والباعة يرفضون بيع كل ما عندهم على أمل أن يحصلوا على سعر أعلى في المستقبل استمرت هذه الحالة على ما هي عليه إلى أن جاء وقت اختفت فيه السجائر تماماً من الكويت بقينا على هذا الحال إلى أن وصلت شحنة من السجائر الهندية وهي ليست كالسجائر في شيء إلا في اسمها إلا أنها بيعت بأسعار خيالية بعد نفاذها وصلت شحنة من السجائر القبرصية المنتهية مدة صلاحيتها فهي كالعيدان في صلابتها جافة كأنها خرجت من الفرن الآن رائحة الرطوبة تخرج منها وكأنها كانت في منجم واستغل الباعة الظروف وباعوها حتى وصل سعر العلبة منها عشرون ديناراً.
أعطيت الممرض كل ما عندي من سجائر
أما نحن الذين بقينا في الكويت ولم نخرج منها فكنا بدون عمل نجتمع ليلاً في إحدى الشقق ليروي كل واحد منا قصة صراعه اليومي مع الحياة فقد صغرت أحلامنا وأصبحنا مشغولين في تدبير لقمة العيش ليس إلا في أحد هذه الأيام روى لنا مُمرّض يعمل في مستشفى الأمراض العقلية أن مريضاً أعمى يضع إصبعه في فم مريض آخر مثله ويوهمه بأن إصبعه سيجارة ويُصدق الأعمى ذلك ويدخن إصبع صاحبه على أساس أنه سيجارة تأثرت في هذا الموقف وسألت المُمرض عن عدد المدخنين عنده فأجاب الممرض:حوالي الأربعين فأعطيته كل ما عندي من سجائر عن طيب خاطر كي يعطي كل مريض سيجارة!.
نصب الجيش العراقي نقاط تفتيش في كل مكان
وفي هذه الظروف الصعبة نصب الجيش العراقي نقاط تفتيش في كافة الطرق لدواعٍ أمنية كما كانوا يزعمون وعندما كنت أقف أمام جندي نقطة التفتيش ويرى أنني أحمل سجائر يطلب مني واحدة بدلاً من أن يطلب هويتي الشخصية فأعطيه مُكرهاً – لا كما أعطيت المرضى في مستشفى الأمراض العقلية – وأذهب للنقطة التي بعدها فيطلب هو الآخر سيجارة فأعطيه وهكذا إلى أن أصل البيت فأكون قد أنهيت كل سجائري.
أصفط على اليمين وإفتح الدبة
أما إذا حاولت إخفاء سجائري عنهم فلن أستطيع إخفاء أسناني التي تكشف أنني مدخن وعندما أقترب من نقطة التفتيش يطلب مني الجندي الواقف سيجارة فإذا قلت له:لا أدخن فينظر إلى أسناني فيعلم أني غير صادق معه عندها يقول لي:اصفط على اليمين وافتح الدّبة والجيبة أي قف على اليمين وافتح صندوق السيارة والمحفظة الأمامية ولا يُفتش سيارتي كما هي وظيفته بل يفتش عن سجائري!فإذا وجدها يطلب مني واحدة فأعطيه مُجبراً أما إذا لم يجد ما يبحث عنه فستبقى واقفاً على يمين الطريق إلى أن يُجبرك على التدخين فتدخن وعندها سيطلب منك سيجارة ويقول لك:مع السلامة عيني في أمان الله وفي حال عاندت ولم تدخن في فترة الوقوف الإجباري هذه فأنت بذلك قد وضعت نفسك مع أعداء الأمة العربية وعليك أن تتحمّل النتائج المُترتبة على ذلك!.
أبو رحاب ضابط كبير في الجيش العراقي، (نسيت رتبته الآن)، عينته الحكومة العراقية ليكون مسؤولاً عن وزارة التربية والتعليم في الكويت، بعد احتلالها من قبل النظام العراقي، لكنني وإن كنت قد نسيت رتبته، لا يمكن أن أنسى مُسدّسه، وهو يتدلّى من وسطه، ولن أنس نياشينه العسكرية المُرصّعة على كتفيه وصدره، وخاصة عندما أصدر أمراً عسكرياً للأسرة التربوية في الكويت، للإجتماع بشخصه الكريم قبيل افتتاح العام الدراسي، في إحدى الصالات غير المُكيّفة في منطقة الجابرية، ولم ولن أنس كمّية العرق التي نزفت من جسمي في ذلك اليوم، ونحن في أواخر شهر أغسطس، حيث تتزايد الرطوبة في الكويت في هذا الشهر، ولا يمكن كذلك أن أنسى جوابه لنا (نحن المعلمون العرب الذين كنا نعمل في الكويت سابقاً وأصبحت المحافظة التاسعة عشرة من محافظات العراق لاحقاً) عندما طالبناه بدفع مستحقاتنا المادية، ليذهب كل واحد منا إلى بلده.
سفن تحميل النفط
أما جواب أبو رحاب لنا عندما طالبناه بدفع مستحقاتنا فكان: العراق كما تعلمون بلاد كل العرب، ومن يقول غير ذلك عليه مراقبة السفن، حتى ترسو على شواطئ الكويت لتحميل النفط، عندها فقط سنطلب منكم أن تأتون إلينا، لندفع لكم مُستحقاتكم، أما اليوم فعليكم الإلتزام بالدّوام المدرسي، في أوّل يوم من أيام العام الدراسي هذا، ومن يتغيّب منكم عن عمله، سيُحرم من مُكافئته المادية، ويُفصل من سلك التربية والتعليم، وسنعتبره من الخاسئين، ثم أكمل كلامه وقال: وليخسأ الخاسئون.
أهل الكويت وهم يغادرون بلدهم
بالنسبة لي وأمثالي من المعلمين العرب في الكويت، كنا قد أسّسنا لحياتنا القادمة، ولم يكن لدينا سيولة تكفينا ذلّ السؤال، لو رفضنا هذا الوضع الجديد، وعُدنا إلى بلادنا، فهل يُعقل أن أعود إلى بلدي بعد هذا الإغتراب الطويل، وأمدّ يدي إلى من هم حولي؟لهذا قبلنا بالواقع المرير، وتحملنا من أجله كل المخاطر، أما أنا شخصياً بعد أن اتخذت قرار الصمود في الكويت، تعرّضت لهجوم آخر من الأهل والأصدقاء على هذا القرار، حتى أنّ أحدهم قال لي بالحرف الواحد: إذا كان أهل الكويت أنفسهم كانوا قد غادروها، فلماذا أنت باقٍ فيها؟.
الطالب القدوة
ومع كل هذا الضغط التي تعرضت له من الأهل والأقارب، رفضت مغادرة الكويت، وانتظمت في دوامي، فعينوني مدرساً للرياضيات في ثانوية الجابرية بدلاً من ثانوية عبدالله السالم، وفرضوا نظامهم التعليمي على على التعليم في الكويت، ففي يوم 23 تشرين الثاني من كل عام، يتم اختيار الطالب (القدوة) في كل صف دراسي، على أن يكون هذا الطالب مُهذباً، ومُتفوقاً في دراسته، ومُتعاوناً مع زملائه، كي يكون جديراً بالثقة التي ستمنح له من قبل زملائه الطلاب في صفه، تحت إشراف مدير المدرسة، ومعه معلمون آخرون بعد أن يُنظمون محضراً رسمياً بذلك.
الفائز بالتزكية فلان الفلاني الذي لم يُداوم أبداً
وكان في الصف الذي كنت أدرسه، طالب مُسجل عندي في كشف أسماء طلاب الصف، إلا أنه لا يداوم أبداً، حتى أنني لم أر وجهه مطلقاً، وقد صادف غيابي عن المدرسة في يوم الانتخابات التي كانت قد أجريت بين طلاب هذا الصف، الذي كنت أدرّسه، فقد غادرت المدرسة لأمر يخصّني في ذلك اليوم المشهود، وعندما عدت في اليوم التالي سألت عن الطالب الفائز بلقب القدوة، فقالوا لي: إنه فلان الفلاني الذي لم يُداوم أبداً، وقد فاز بالتزكية، وبدون مُنازع. حيّرني الأمر واختليت بطالب مُجتهد خلوق، أرشحه ليكون الطالب القدوة، وسألته عن الذي حصل بالأمس، وكيف فاز فلان الفلاني بالتزكية؟ فقال لي هذا الطالب:
البرنامج الإنتخابي
عندما سمع فلان هذا عن منصب الطالب القدوة وامتيازاته، حضر في يوم الإنتخابات فقط، وأغلق علينا الباب، وقال لنا: اسمعوا وعوا جيداً أيها الرفاق، أنا لست قدوتكم، ولن أكون كذلك، ولكني أعدكم إذا انتخبتموني أن أقف في وجه المدير والمدرسين، وأحصّل لكم حقوقكم منهم بالقوة إذا لزم الأمر، أما إذا انتخبتم القدوة الحقيقي، فسيكون مؤدباً معهم، ولن يستطيع مُجابهة الإدارة والمدرسين، وبالتالي ستضيع حقوقكم، وأنتم أحرار فيما تختارون، ثم جاء المدير ومعه طاقم الانتخابات، وانتخب طلاب الصف فلاناً هذا، وسجلوا في المحضر الرسمي أنه فاز بالتزكية.
صف دراسي
أكتب لكم ما كان قد حصل في صفّ دراسيّ، لطلاب صغار، لا يعرفون اللفّ ولا الدوران بعد، لكن وُجد من يربط مصالحهم (الوهمية) بنفسه، ويفوز بالقدوة، والسؤال الآن، هل يختلف هذا المشهد كثيراً عن ما يحدث في مُجتمعاتنا العربية؟ فهناك من يخلق أهدافاً وهمية للجماهير، ويربط تحقيقها بنفسه، وعندما ينتخبه الناس ويفوز بالتزكية، تطير هذه الأهداف دفعة واحدة، ويبقى هو في السلطة، وبعد أن يتمكن منها يُورّثها لأولاده من بعده، ويهدي ما تبقى منها، لأصدقائه وأقاربه ومعارفه.
كنت أسير يوماً في الطريق الدائري الرابع، وهو أحد شوارع الكويت الذي يسلكه كل قادم أو ذاهب إلى العراق، وإذا بشخصيشير لي بالوقوف، وبإلحاح شديد. تحرّكت فيّ النخوة العربية الأصيلة، وقلت في نفسي، سأقف لهذا الشخص، ربما تكون عنده مشكلة، أستطيع حلها له. قبل أن أقف تماماً، ركض نحو السيارة مسرعاً، وقال: مضى عليّ ساعتان، وأنا أستنجد بالسيارات المارة، ولم يقف لي أحد منهم، فقلت له: وماذا تريد؟.
أريد منك أن توصلني إلى أقرب رافعة سيارات
قال: أريد منك أن توصلني إلى أقرب رافعة سيارات، فقلت له:خيراً إن شاء الله، قال: دعمت سيارتي، وأريد تحميلها إلى البصرة لتصليحها، فقلت له: وما حلّ بها بعد أن دعمتها؟ قال: باب السائق ضغط على مقودها، ومنعها من الحركة، فقلت له: إذا تمكنا من إبعاد الباب عن المقعد، هل تستطيع أن تقودها؟ قال: نعم. وبكل نخوة عربية، وسذاجة ريفية، قلت له: إن أجرة الرافعة باهظة جداً، يصعب عليك تحملها، سأربط باب سيارتك، بمؤخرة سيارتي، بحبل أو سلك حديدي، وأحرك سيارتي، وأبعد لك الباب عن المقود، ثم بعدها تذهب بسيارتك إلى البصرة، وتصلحها هناك، فتقل عليك التكلفة.
كيف وصلت لهذا المكان؟
وافق الرجل، ولكن ببرود، وقال: لنجرب، فسألته عن مكان سيارته، فقال: هي قريبة جداً، فقلت له: دُلني على مكانها، وانطلقتُ بسرعة قبل أن تغيب الشمس، طالباً منه أن يدلني على مكانها، ولم يبق يمين أو يسار إلا ودخلته، وبعد جهد جهيد وصلنا إلى السيارة، وإذا نحن في منطقة الشويخ، بالقرب من مخازن إحدى الشركات المشهورة، فأدهشني هذا الرجل في كيفية وصوله إلى هذا المكان، فسألته على الفور: أنا أعيش في الكويت منذ عشرين سنة، ولم أصل هذا المكان، فكيف وصلت له بهذه السرعة؟.
الضابط العراقي
لم أنتظر جوابه لي، بل نزلت بسرعة من سيارتي، وقمت بمعاينة سيارته، فوجدته صادقاً فيما ادّعى، وانشغلت معه في تنفيذ الخطة التي كنا قد اتفقنا عليها. فجأة ظهر جيب عسكري عراقي، لا أدري كيف؟ ولا من أين ظهر؟ ونزل منه ضابط عراقي عريض المنكبين، طويل القامة، وتوجه إلينا، لم أصبر عليه ليصلنا، بل اتجهت نحوه، وعندما وقفت أمامه، شعرت بأنني قزم، وقلت له: هذا أخ عراقي دعم سيارته، ونحاول إصلاحها، لم يعرني هذا الضايط أي انتباه، ولا كأني تكلمت معه، بل توجه إلى الرجل مباشرة، ووضع مسدسه على رأسه، وقال له: ألم أطلق عليك النار قبل ساعة؟ وهربت بعد أن أصبت، وأصيبت سيارتك بعدة عيارات نارية؟ أرجعت ثانية، بدون حياء، ولا خجل، اذهب يا رجل، إني أعتقتك هذه المرة من أجل أطفالك الصغار، لكن في المرة الثالثة، لو رأيتك في أي مكان في الكويت، قسماً بالله، لن تخرج إلا جثة هامدة، ألم يكفيكم العراق بطوله وعرضه، بل جئتم إلى هنا لتسرقوا؟ أخزيتمونا أخزاكم الله، ماذا سيقول عنا الناس غداً؟.
ألبسني هذا الرجل تهمة عقوبتها السجن
وعلى ضوء سيارة الضابط العسكرية، رأيت يد هذا الرجل ملفوفة، لكنه يغطيها بكُمّ ثوبه، وبعد أن دققت النظر أكثر، رأيت بقع من الدم على ملابسه، ورأبت الرصاصات التي كانت قد اخترقت باب سيارته، وبعد الذي حصل، انصرف الرجل ماشياً على الأقدام، ولم يقل لي حتى كلمة شكراً، بعد أن ألبسني تهمة مساعدة حرامي على السرقة، عقوبتها السجن على الأقل، لولا لطف الله وتقدير هذا الضابط للموقف، حيث غادر دون أن يتكلم معي، ولو كلمة واحدة ، وغادرت المكان مندهشاً لما حدث، وقد ازددت إيماناً، بأن الله تعالى، يرى ما في القلوب، ولكل امرئ ما نوى.
بعد أن إجتاحت القوات العراقية دولة الكويت، وانتشرت فيها كالجراد الجائع، آكلين الأخضر واليابس، وفاتحين مخازنها، وناهبين ما بداخلها، أصبحت الكويت بعد ذلك قاعاً صفصفاً، بعد أن كانت جوهرةً للخليج. وانقلب الحال رأساً على عقب، فقد أصبحت الحاجات الأساسية متوفرة في مدينة البصرة، أكثر منها في الكويت. زد على ذلك أن البيع والشراء في البصرة بالدينار العراقي، وهو متوفر لدينا، عكس الشراء في الكويت الذي كان بالدينار الكويتي، الذي أصبح يختفي رويداً رويداً من بين أيدينا، أما نحن الوافدون إلى الكويت، فقد إنقطع الإتصال بيننا وبين أهلنا، ولم يعد بيننا وبينهم أي إتصال،مما سبب لنا ولهم مزيداً من القلق، وما أن إنتهت هذه الحرب، حتى وجدنا أن معظم الآباء والأمهات، قد أصيبوا على إثرها بمرضي الضغط والسكري.
بضاعة الكويت أصبحت موجودة في البصرة
وفي خضم هذا الواقع الجديد ارتأيت، أن أذهب إلى مدينة البصرة، كي أضرب عصفورين بحجر واحد، أتصل بأهلي لأطمئن عليهم، وأطمئنهم عن أحوالنا، وأشتري ما تحتاج له عائلتي من مواد تموينية بكميات أكبر، وأنا في الواقع، سأشتري بضاعة الكويت، ولكن من البصرة، ونسيت أن أنبه القارئ، إلى أن الحدود الكويتية العراقية أصبحت مفتوحة، ولم يعد لكرت الزيارة من ضرورة، فقد أصبحنا مثل أوروبا، نتحرك بالهوية الشخصية، وأصبحت مراكز الحدود بين الجانبين مهجورة، بعد أن كانت في الماضي، تعج بالموظفين والمسافرين.
العبدلي
ركبت سيارتي، واتجهت إلى البصرة، وقبل وصولي إلى العبدلي، وجدت نفسي أقف في طابور طويل من السيارات، لم أسأل غير نفسي عن سبب الوقوف، بعد أن تعودنا على الوقوف بالطابور مراراً وتكراراً، وإذا بجندي عراقي، يمر على كل سيارة في الطابور، ليقول لسائقها: إنتظر عيني داخل سيارتك، وافتح شبابيكها، ولا تسألني عن السبب، وبقيت على هذا الحال حوالي الساعة، دون أن أعرف سبباً لوقوفي، وخلال هذه الساعة تذكرت العبدلي، وأنا الذي أعرفها جيداً، وأعرف مكانتها، فعندما كنت أصلها قادماً للكويت من الأردن، مروراً بالعراق، كانت هي المكان الوحيد، الذي كنت آكل فيه، وأشرب العصير، والماء البارد، دون أن يطاردني الذباب ليأكل معي، ومنها كنت أتصل بالعالم الخارجي، لأطمئن الأهل والأصدقاء عني، وما أن انتهيت من هذا الحلم، حتى رأيت القوم مشغولين، فسألت نفسي بنفسي: فيم ينشغل القوم يا ترى؟.
وإذا بالمئذنة تهوي على الأرض
خطر في بالي لأول وهلة، أنهم يحلون الإشكال اللغوي الأزلي بين الكوفيين والبصريين، بعد أن حققوا الإنتصار العظيم على أرض الكويت، أو أنهم يدرسون خطة، لسحب مياه شط العرب، وتزويد الفرع «الكويت» من الأصل «العراق»، بعد أن رأوا بأم أعينهم، أن الفرع تنقصه مياه الأصل، وقد سرحت في خيالي أكثر، ونظرت أمامي، فلم أجد غير مئذنة المسجد الشامخة، لأركز نظري عليها، للتغلب على دقائق الإنتظار، وإذا بالمئذنة تهوي على الأرض، بطولها وعرضها، وسقف مسجدها يلامس سطح الأرض، ويصاحبه صوت انفجار ضخم، وتظهر سحابة من الغبار الكثيف، تلف المنطقة كلها.
فقلت في نفسي: يا للهول، أوصل الأعداء إلى هنا؟ لكن الأعداء حسب معلوماتي، يفجرون (مفاعلا نووياً)، ولا يفجرون مسجداً، إذن فقد عاد (الحجاج) ثانية،لكنه هذه المرة، لم يُعلّق جثة على أسوار الكعبة، كما فعل في الماضي، ويركع بعدها لله تعالى، بل أركع المسجد والمئذنة، هذه المرة له ، كي تصبح سابقة في التاريخ الحديث، والغريب في الموضوع، أن العراقيين بعدها، قاموا بتحديث العلم العراقي، وأدخلوا عليه، عبارة (الله أكبر) مرتين، مرة لهدم المسجد، والأخرى لهدم المئذنة، دون أن يراهم أحد، ومما زاد الطين بلة، أن بعض المسلمين في أرض الحشد والرباط، وأكناف بيت المقدس، كانوا قد شاهدوا صورة هذا الحجاج على وجه القمر في تلك الليلة.
تماثيل على شط العرب لكل جنرالات الجيش العراقي
وعندما وصلت البصرة، ذهبت إلى شط العرب، الذي كنت أحلم برؤيته في صغري، فقد كان إسمه يستهويني، فرأيت كل جنرالات الجيش العراقي العظام، الذين إستشهدوا في الحرب العراقية الإيرانية، كأنهم أحياء يرزقون، لهم تماثيل تجسدهم، وهم يمدون يداً، باتجاه العدو الإيراني، وتحت كل تمثال من هذه التماثيل، كُتب إسم صاحبه، ورتبته العسكرية، ويوم إستشهاده، والمعركة التي كان قد استشهد فيها، وفوق كل ذلك عبارة: لكي لا ننسى، فلم أتمالك نفسي، بعد أن إقتربت من أحد هؤلاء القادة العظام، وهمست في أذنه باللهجة الخليجية: خُبرك عتيج يا سيادة القائد، فقد غيّرت قيادتك الإتجاه، وأنت لا تعلم سيدي،رحمك الله، ورحم كل شهداء العراق معك.