
أخذ صاحبنا مسودة لما كان قد كتب وسار بها في الشارع المؤدي إلى أرض المقبرة (وهذا الشارع لا يسلكه إلا ذو حاجة فهو يخلو من المارة إلا ما ندر) علّه يجد فيها من الأموات من يسمعه بعد أن رفض الأحياء سماعه وبينما هو يسير في الطريق إلتقى صاحبنا بصديق قديم له كان قد زامله في العمل في يوم من الأيام (فدخلا معاً في حفلة عناق وتبويس شديدين وما أن إنتهيا من هذه الحفلة) حتى سأل صديقه صاحبنا عن أحواله بعد أن جرب وعاش حياة التقاعد.
فقال له صاحبنا: التقاعد يا صديقي هو عملية إنسحاب تكتيكي من المجتمع يقوم بها الفرد إما طوعاً أو كُرهاً كي يرى الأشياء على حقيقتها وبصورة أكثر وضوحاً وأكثر شفافية مما كانت تبدو له من قبل أثناء ممارسته للوظيفة وبعد أن يرى المتقاعد هذه الأشياء على حقيقتها يُعيد النظر في أسلوب الحياة الذي كان قد إتبعه قبل تقاعده وعليه فقد يعود للحياة ثانية ليمارس دوره في المجتمع لكن بفهم جديد وقد ينطوي على نفسه فينعزل عن الناس ولا يعود إليهم ثانية.
صديقه: وما فهمك (الجديد) للحياة يا صديقي بعد أن عشت حياة التقاعد وجربتها؟.

صاحبنا: كنت قبل التقاعد يا صديقي مثار إعجاب كل من هم حولي في البيت والمدرسة وحتى في الشارع أو في الحارة فكنت ترى الناس من حولي وهم يطلبون رأيي ومشورتي في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم ومن منهم لم يتمكن من رؤيتي شخصياً كان يطلبني على الموبايل كي يستشيرني ويأخذ برأيي أما إذا تكلمت فكانوا كلهم آذاناً صاغية لما أقوله لهم أما بعد التقاعد يا صديقي فقد أطلقوا عليّ اسم (حاج) قبل أن أحج وأصبحتُ مثاراً للشفقة في الشارع قبل البيت ولا أجد من يسمعني أو يستمع إليّ حتى موبايلي لم يعد له صوتاً فما من أحد يسأل عني.

صديقه: ألست أنت من إخترت أن تعيش حياة التقاعد لتريح نفسك من (مقارعة) الناس والعباد وتتخلص من أعباء وهموم الوظيفة ومشاكلها وقيودها ولم يجبرك أحد على ذلك لهذا يا صديقي لا أرى في كلامك حتى الآن أية مشكلة تذكر فالبُعد عن الوظيفة في أيامنا هذه أصبح أكبر (مغنم) لكنك لم تذق طعمه بعد ولم تشعر بهذه النعمة حتى الآن.
صاحبنا: المشكلة التي سيضيفها لك التقاعد يا صديقي أكبر بكثير مما تتصور فالتقاعد يا صديقي يجعل الناس من حولك تنظر إليك بأنك أصبحت غير قادر على الفعل وغير قادر حتى على الحوار وهذا بحد ذاته يعطل عندك فعل العقل ويميت فيك روح الإبداع مما يجعل الحب الذي بداخلك يتبخر شيئاً فشيئاً إلى أن يتلاشى فالحب يا سيدي يبقى ما بقي الحوار.
صديقه: الحب يا صديقي يولد مع الإنسان بالفطرة وينمو مع الزمن دون معاونة الفصول له.
صاحبنا: إعلم يا صديقي (إن كنت لا تعلم) بأن الحب هو تجربة إنسانية وجودية وحيدة يعيشها الإنسان فقط دون غيره من مخلوقات الله كي يستطيع بها أن ينتزع نفسه من وحدتها القاسية الباردة لتقدم له حرارة الحياة المشتركة الدافئة فكيف سيكون الحب حباً من غير عمل أو حوار؟.

صديقه: أنا معك يا صديقي بأن التقاعد يُلغي الحوار بين صاحبه وبين من يحيط به من الناس فماذا أنت فاعل بنفسك بعد أن جفت ينابيع الحوار بينك وبينهم؟.
صاحبنا: بعد أن رفض الأحياء حواري كان لا بد لي يا صديقي من أن أذهب إلى الأموات في قبورهم لعلي أجد منهم واحداً أو أكثر يسمعني ويشاركني الحوار بعد أن جفّ حوار الأحياء من حولي.

صديقه: ولماذا تبحث يا صديقي عن أموات حقيقيين ماتوا منذ سنين قد لا يفهموا عليك ما ستقوله لهم؟ أدعوك لأن تبحث عن أموات أحياء لم يدخلوا المقبرة بعد لكنهم ينتظرون دخولها على أحرّ من الجمر.
صاحبنا: وهل يوجد أموات يا صديقي يعيشون خارج المقابر؟ فأنا عن نفسي لم أجد ولم أر قبراً واحداً في شارع أو في حيّ خارجاً عن المقابر .

صديقه: نعم يا صديقي فهناك الآلاف من الآباء والأمهات والأجداد والجدات الأحياء الموتى الذين يعيشون في مقابر صغيرة لكن داخل بيوتهم التي بنوها بجدهم واجتهادهم ومن عرق جبينهم.
صاحبنا: احتد صاحبنا مما سمعه من صديقه عن الأموات الأحياء وصاح بصديقه قائلاً: ماذا تقول يا رجل؟ أيعقل أن تتحول بيوت الآباء والأجداد والأمهات والجدات إلى قبور لهم يعيشون فيها بقية حياتهم وهو أحياء يرزقون؟ ألم يكفهم ما لاقوه من تعب وعناء في بداية حياتهم؟.
صديقه: نعم يا صديقي للأسف الشديد فعندما يكبر هؤلاء الآباء والأجداد في السن ستكون بيوتهم قبوراً لهم شاؤوا أم أبوا.

صاحبنا: ومن الذي سيميتهم في بيوتهم وهم أحياء فيها لكنهم لم يرزقون؟.
صديقه: يميتهم يا صديقي كل من يعيشون معهم وحولهم من أولاد وزوجات وبنات وأخوة وأخوات وأحفاد وحتى الأقارب والأصدقاء والجيران.
صاحبنا: وكيف يكون ذلك؟ وقالها صاحبنا باستهجان شديد ثم أتبع يقول: أنا لم أفهم ما قلته لي يا صديقي عن موت الأحياء الأموات هذا أرجوك أن توضح لي أكثر فقد شوّقتني لسماع مثل هذه الأخبار غير السارة.
صديقه: أماتوهم أولادهم وبناتهم يا صديقي عندما عزفوا عن الحوار معهم.

صاحبنا: وماذا كانت ردة فعل هؤلاء الأموات الأحياء على من حولهم بعد أن أماتوهم وهم أحياء؟.
صديقه: هناك من الآباء والأمهات والأجداد والجدات من أماتوا أنفسهم طوعاً لا كرهاً قبل أن يميتهم مَن هم مِن حولهم.
صاحبنا: وِلمَ يميت هؤلاء الآباء والأجداد والأمهات والجدات أنفسهم طوعاً دون أن ينتظروا موتهم الحقيقي؟.
صديقه: في الغالب يميت الآباء والأجداد أنفسهم طوعاً كي يدافعوا بالموت الحيّ عن أنفسم أمام إهمال الآخرين لهم.

صاحبنا: وإذا ما أمات هؤلاء الناس أنفسهم طوعاً فماذا تكون ردة فعل من هم حولهم على ذلك؟.
صديقه: بكل بساطة سيقولون عنهم أنهم إستراحوا وأراحوا.
صاحبنا: وكيف يميت الناس من كانوا سبباً في وجودهم يوماً ما؟.
صديقه: أنسيت يا صديقي أن الناس في هذه الأيام كانوا قد فهموا أو فهموا أن بر الوالدين ورد الجميل للكبار يكون فقط بتوفير الأكل والشرب لهم دون أن يحادثوهم أو يحاوروهم أو يناقشوهم أو يستشيروهم ونسي هؤلاء الناس أو تناسوا بأنهم كانوا ينتظرون منهم كلمة أو إبتسامة في يوم من الأيام.

صاحبنا: وهؤلاء الآباء والأمهات والأجداد الأحياء الموتى الذين تتحدث عنهم أين أجدهم؟.
صديقه: لن تجدهم في دور الرعاية أو المستشفيات فحسب بل ستجدهم في أماكن أقرب بكثير من ذلك ستجدهم يا صديقي في منازلهم إذهب وابحث عنهم حولك بدلاً من أن تذهب إلى الأموات في قبورهم لأنه لو فعلت فعلتك تلك لاتهمك الناس بالجنون والخرف.

قال صديقه هذه الكلمات وهو يضع يده في يد صاحبنا مودعاُ وانصرف بعد أن رسم على شفتيه إبتسامة عريضة تنم عن سخرية مما فعله أو سيفعله صاحبنا وعلى الرغم من ذلك لم يقتنع صاحبنا بما قاله له صديقه لا بل راوده الشك في وجود مثل هؤلاء الأحياء الأموات أصلاً فصديقه لم يسهل عليه مهمته بل صعّبها عليه أكثر وأصبح لزاماً على صاحبنا أن يبحث عن هؤلاء الأموات الأحياء الذين كان قد وصفهم له صديقه في أماكن تواجدهم.
