
وصلت إلى مدينة دمشق قادماً من مدينة حلب وأريد السفر لأول مرة في حياتي بالطائرة إلى الكويت وكنت أظن أنني أنا من يحدد المدة التي سأقضيها في دمشق لكن حساب الحقل ليس كحساب البيدر فقد ظهرت لي معوقات لم تكن في الحسبان جعلتني أعيش أسبوعاً كاملاً في دمشق قبل أن أسافر إلى الكويت والفلوس التي بحوزتي لا تكفيني طوال هذه المدة فما العمل؟.

قلت في نفسي:لحل هذه المشكلة عليّ أن أستخدم الحرص الذي تعلمته من أهل مدينة دمشق والعلم الذي درسته في مدينة حلب فقد كانت جامعتنا أول جامعة عربية تدرّس مادة بحوث العمليات فيها وهذه المادة تستخدم الرياضيات لحل مشاكل الإنسان اليومية وذلك بتقليل الخسائر عند ظهورها وزيادة الأرباح في حال حصولها.

أحضرت في الحال قلماً وورقة وقمت بتسجيل تكاليف هذه الفترة من مأكل ومشرب وملبس وترفيه وقمت بعملية حسابية بسيطة بأن وزعت ما تبقى معي من فلوس على عدد هذه الأيام وخرجت بنتيجة مفادها:أن الأكل مُحرّم عليّ إلا من ثلاث إما متبل الباذنجان أو الحمص بالطحينة أو الفول المدمس ومن طريف القول أنني كنت ـ ولا زلت ـ أحب أكل المتبل صباحاً ومساءاً وحتى على الغداء أيضاً فأهل مدينة حلب يتقنون صنعه وأهل مدينة دمشق يُجيدون تقديمه لكنني عندما شعرت أنني مجبر على أكله أصبحت لا أطيق له طعماً.

استحملت وتحمّلت كل ما نتج عن هذه الخطة من ضغوط نفسية إلا أنني كنت قد اكتشفت خللاً في هذه الخطة التي كنت قد وضعتها فلم أكن وقتها أعلم بأن المسافة بين مطار دمشق ومركز المدينة هي 25 كم في الإتجاه الشرقي لمدينة دمشق وهذا يحتاج مني للوصول إلى المطار أن أركب سيارة والسيارة تحتاج إلى أجرة ولم أضع في حساباتي أجرة هذه السيارة فكان عليّ تدبير هذه الأجرة بأي طريقة كانت واستنتجت لوحدي بعد هذه الحادثة أن الخبرة واستخدام العلم وحدهما لا يكفيان في وضع الخطط إذا لم تتوفر المعلومات الكافية.

فتذكرت في تلك اللحظة شعوبنا العربية المسكينة عندما يُشكِلون لهم حكوماتهم فالوزير يكون آخر من يعلم عن شؤون وزارته وعلى الفور يبدأ في رسم الخطط دون أن يمتلك المعلومات الكافية عن وزارته وعندما يبدأ في تنفيذ هذه الخطط التي وضعها تظهر له أخطائه فيتعلم منها وما أن يمتلك المعلومات عن وزارته حتى يقيلوه أو يجبروه على الإستقالة ويأتوا بوزير جديد ليبدأ هو الآخر في التعلم من جديد ويبدأ المسكين في التخطيط كما خطط من سبقه ويفشل هو الآخر كما فشل من سبقه فتدفع شعوبنا الثمن كما دفعته أنا.

نبشت ذاكرتي من الأعماق كي أبحث عن شخص في دمشق أعرفه لأستدين منه أجرة السيارة التي ستقلني من الفندق إلى المطار فلم أجد إلا فريد جبر من سكان مخيم اليرموك الذي كان أحد زملائي في الجامعة لكنه كان قد تركها ولم يكمل دراسته فيها دون أن أعلم السبب والعلاقة بيننا كانت قصيرة ولم تصل إلى درجة الصداقة لكن مخيم اليرموك يعتبر من ضواحي دمشق فلا بد أن تكون مواصلاته رخيصة بحيث أستطيع تحملها وفي الحال قررت التوجه إلى ذلك الشاب ليخلصني من المأزق الذي وُضعت به.

سألت نفسي عن كيفية الوصول إلى هذا الصديق فتذكرت في الحال أنني سمعت من يقول عن أهل دمشق أنهم لا يدلون سائلاً لو سألهم عن شخص ما أو مكان ما ولهم فلسفتهم ـ التي أحترمها ـ في ذلك فهم يُبرّرون موقفهم هذا بقولهم:قد يكون السائل عدوّاً للمسؤول عنه يريد التخلص منه لكنني سألت أحدهم عن موقف باصات مخيم اليرموك فدلني على مكانه فاحترت فيما كنت قد سمعت فإما أنهم غيّروا ما بأنفسهم أو أن من سألته كان شخصاً حلبياً متواجداً في دمشق فأهل مدينة حلب إن سألت أحدهم عن شخص أو مكان ما لا يكتفي بالإشارة إليه من بعيد كغيرهم من الناس بل يقطع عمله ويأخذك للشخص أو المكان الذي تطلبه.

ركبت الباص متوجهاً إلى مخيم اليرموك وعندما وصلته احترت في مكان النزول فأنا لا أعرف أحداً أو مكاناً بعينه بل كل ما أعرفه إسماً فقط ونزلت من الباص في الموقف الأخير ومر شخص من أمامي وبعد أن حيّيته سألته عن فريد جبر فقال:ما صنعته؟قلت له:طالب جامعي سابق فردّ عليّ قائلاً:لا أعرفه شخصياً لكنني أعرف أقاربه وأصدقائه وأدار بوجهه إلى اليمين وصاح:يا فلان عليك بإيصال هذا الأخ إلى فريد جبر فوراً فقال له:لا يوجد عندي أحد ليقف مكاني بالدكان فقال له:أنا أقف مكانك حتى تعود.

اصطحبني صاحب الدكان معه ومشينا إلى أن وصلنا بيت فريد جبر لكنه لم يضرب جرس الباب وينتظر خروجه كما هي العادة بل صاح عليه ونحن خارج البيت وعندما سمعه فريد ردّ عليه بنعم فأجابه صاحب الدكان وقال له:معي ضيف يسأل عنك تعال واستلم وودعني صاحب الدكان وعاد إلى دكانه مسرعاً وعندما رآني فريد استقبلني بالأحضان ومازحني باللهجة الحلبية ليُشعرني أنه لا زال يتذكرني وقال مُرحباً:على رأسي حارتك خاي.

عرّفني فريد جبر على جميع أفراد أسرته وعلى كل من تواجد من أقاربه وجيرانه بعد أن تجمعوا جميعاً عنده ليروا بأم أعينهم ضيف فريد هذا ولم أتمكن من الاختلاء به لطرح قضيتي التي جئت من أجل طرحها عليه وما أن حان وقت الغداء حتى وجدت الجميع قد تفرقوا بنفس السرعة التي كانوا قد تجمعوا فيها وما هي إلا لحظات حتى حضرت والدته ومعها بعض الأطباق من الأكل الفلسطيني الذي اشتقت إليه وما أن وضعت طبق الملوخية على الطاولة لم يبق في الغرفة إلا أنا وفريد فقط.

بعد أن أكلنا تبادلنا الأخبار وكان أول سؤال له:هل أنت مسافر إلى حلب أم إلى عمان؟فقلت له:لا هذه ولا تلك أنا مسافر لزيارة أخي في الكويت وأريد منك أجرة السيارة من دمشق إلى المطار فقال:على الرحب والسعة انتظرني هنا حتى أعود وما هي إلا دقائق معدودة حتى عاد ومعه المبلغ المطلوب وكان قطعاً معدنيه يضعها في كيس ورقي ويقول لي:تفضل وناولني الكيس واعتذر مني قائلا:أنا لا أملك مثل هذا المبلغ الذي طلبته مني لكنني ذهبت واستدنته لك من صاحب الدكان الذي أوصلك إلى عندي.

كنت في الماضي أعلم عن العرب وكرمهم ولكنهم كانوا يكرمون بما يملكون لكن كرم فريد جبر كان قد فاق كل كرم العرب لأنه استدان ليكرم ضيفه وبعد أن شكرت الرجل على حسن صنيعه معي قمت بتسجيل عنوانه البريدي ووعدته بأن أقوم بإرسال هذا المبلغ الذي كان قد أعطاني إياه بمجرد وصولي إلى الكويت وكان علي التخلص من كرمهم وضيافتهم بأن قدمت موعد سفري يوماً واحداً كي يسمحوا لي بالمغادرة فذكرتني هذه الحادثة بما كان يقوله لي والدي رحمه الله:حاول يا ولدي أن تبني لك في كل بلد جامعاً وتعني هذه العبارة بلغة اليوم:لا بد أن يكون لك معارف وأصدقاء في كل بلد فقد تحتاجهم يوماً ما.

قصصك مشوقه وكما ذكرت لك في تعليق سابق تصلح لنشرها
في كتاب……المهم كان معك اجرة اللطائره للكويت انا لم يكن معي سوى اجرة الباص للكويت وهكذا ذهبت قطعت صحراء بادية الشام والعراق في رحلة ظننت ان ﻻ نهاية لها ……..
إعجابLiked by 1 person