
إستقبلني أقاربي ومظاهر الحزن تبدو في وجوههم وقطرات الدموع تملأ عيونهم ولم يكن والدي من بينهم فقلت في نفسي:المكتوب يُقرأ من عنوانه فلا داعي لطرح السؤال الذي كنت قد قدمت من أجل الإجابة عليه ولم أسأل بعد أن تيقنت بأن والدي كان قد رحل إلى الرفيق الأعلى لكنني أصبحت في تلك اللحظة متشوقاً كي أعرف كيف رحل؟لكن قبل ذلك قفزت إلى ذهني صورة والدي في منتصف خمسينات القرن الماضي عندما صحوت من نومي (وأنا طفل صغير عمري ست سنوات) عندما ودعنا ونحن نيام فوحدته يرتدي القميص والبنطال الكاكي والحطة والعقال على غير عادته.

وما لفت نظري أكثر في ذلك الوقت أن أمي كانت تحضر له أغراضه وهي تبكي ولم أكن أفهم ما يدور من حولي لكنني بعد ذلك فهمت أنه كان مسافراً إلى الكويت وتذكرت كذلك في الحال عندما سمعت أمي وهي تقول لنا:إن والدكم قد وصل سالماً إلى الكويت وعلى إثر ذلك أقامت ثلاث ليال متصلة من الغناء والأفراح إبتهاجاً بوصوله سالماً وكان مما أتذكره من ذلك الغناء:يا ماما ليش الكويت تبعد عني خلاني وفي تلك الأثناء قطع إبن عمي حبل أفكاري عندما بدأ يروي لي ما حدث مع والدي حيث قال:

لم أصدق أن عمي في ضيافتي فهو يدخل بيتي لأول مرة وقد وصلنا متعباً قلقاً يريد السفر إلى بلده بأقصى سرعة ممكنة وطلب مني أن أرافقه إلى السوق فوراً فلم أعترض على طلبه هذا لكنني طلبت منه أن يستحم أولاً فوافق على الفور وما أن خرج من الحمام حتى كان الغداء جاهزاً فتناولناه سوياً وخرجنا إلى السوق معاً وهناك طلب مني أن أدله على صديق قديم له في الزرقاء يمتلك محلا لبيع الأقمشة وفي هذا المحل يتجمع القادمون من منطقة سلفيت والمغادرون إليها وعندما وصلنا ذلك المحل وجدناه يعج بالناس وبعد حوار قصير مع صاحب المحل سمعته يقول له:خذ هذا المبلغ 60 ديناراً ليكون أمانة عندك إذا حدث لي أي مكروه لا قدر الله على ألا تسلمه إلا إلى ولدي جميل ليكمل به تعليمه.

وبعد أن ودع صاحبه وخرجنا من عنده طلب مني أن أرافقه إلى مكان تجمع الناس الذين يودون السفر إلى الضفة الغربية تهريباً وأخذته إلى مقهى يجتمع فيه الأدلة وكل من يرغب بالسفر إلى هناك وقمنا يعقد صفقة مع أحد الأدلاء كي يوصله إلى الجانب الفلسطيني من نهر الأردن بعد أن إتفقنا معه على أن يدله على مكان سهل وآمن ليقطع منه النهر وعلى هذا الدليل أن يبقى في إنتظاره حتى يصل إلى الضفة الأخرى منه وسافر مع الدليل بعد أن ودعني إلى الغور بالسيارة وبعدها يواصل سير ه على الأقدام حتى يصل إلى النهر.

وفي طريقهم ـ عمّي والدليل ـ وقبل أن يصلوا النهر مرّوا عن نقطة عسكرية أردنية وإذا بالعسكري المسؤول صديق قديم لعمّي يدعى (عبدالحميد رزق الله) من بلدة (مزارع النوباني) فنصح عمي ألا يقطع النهر في هذه الفترة لأن اليهود هذه الأيام شرسون أكثر من اللزوم وعليه أن يعود إلى عمان حتى تهدأ الأمور لكن عمّي (رحمه الله) رفض وأصرّ على السفر ولم يسمع كلام صديقه فاضطر صديقه العسكري هذا أن يراقبه حتى قطع النهر إلى الضفة الغربية.

وقبل أن يختفي عن أنظار صاحبه وإذا بدورية صهيونية تفاجئه فاحتمى بصخرة كبيرة وبدأ يرفع رأسه بين الحين والآخر ليراقب تحركاتهم فرآه أحد أفراد الدورية وأطلق عليه النار وبعد أن تأكد اليهود من موته واصلوا طريقهم لقتل غيره فهذه الدورية مختصة في القتل فقط أما الدفن فله أناسه فبعد أن يقترب اليوم على نهايته يأتون بجرافة لتجمع حصاد ما قتلوا في ذلك اليوم وتحمل الجثامين بعد أن يعطوا كل جثة رقماً يليق بها ثم يغطونهم بالتراب في مقبرة خاصة سموها مقبرة الأرقام.

حدث كل هذا لعمي أمام عيني صديقه العسكري فلم يتحمل ذلك العسكري ما كان قد رأى فذهب سريعاً وقطع النهر وأحضر جواز سفر عمي وأشيائه البسيطة التي كانت معه وعاد ثانية إلى مكان عمله واحتار صاحبه فيما سيفعله بهذه الأغراض فوجد أن أفضل طريقة هي إبلاغ مركز الشرطة بما رأى وقام بتسليم أغراضه إلى مخفر السلط وبعد يومين من سفر عمي وإذا بالمخفر يطلبني للحضور وذهبت في الحال وأبلغني الضابط المسؤول بما حدث لعمي وأعطاني جواز سفره ومتعلقاته هذا كل ما حصل عندنا لكنك لم تقل لي ما كان قد حصل عندكم؟.

قلت:بعد أن وصل الخبر إلى مسامع الناس عندنا إنقسم هؤلاء الناس إلى قسمين:قسم يقول عليكم تبليغ أهله بما حدث والقسم الآخر يقول لا تبلغوهم حتى يتأكد الخبر وبقينا في حيص بيص فأرسلوني إلى عندكم لأستكشف لهم الخبر وأقطع لهم الشك باليقين وقالوا لي:إذهب ولا تقلق على موضوع العودة فهي مؤكدة بعد شهر أو شهرين على الأكثر فها هو الرئيس جمال عبدالناصر يُعد لهم ما يستطيع من قوة ومن رباط الخيل فضحك إبن عمي وقال:أما قوته فرأيناها على أرض الواقع وأما رباط الخيل فلم يبق هناك من خيول ليربطها.

فعلا حين يفوت الأوان .. تفوت معه أشياء كثيره ..
فالعمر قد فات
والصبر قتل ..!!
والقلب مات…
لكننا صامدون بالتحدي مصرين على العيش مهما كلفنا ولرسالة الحياة بقية
إعجابLiked by 1 person
https://jamilabboud.com/2014/05/20/%D8%AD%D9%85%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86/
شوفي أخت سلوى الحمام عندنا أين يقف؟
إعجابإعجاب