هكذا إستشهد والدي


unnamed-file
لم أسأل عن السؤال الذي قدمت من أجله 

إستقبلني أقاربي ومظاهر الحزن تبدو في وجوههم وقطرات الدموع تملأ عيونهم ولم يكن والدي من بينهم فقلت في نفسي:المكتوب يُقرأ من عنوانه فلا داعي لطرح السؤال الذي كنت قد قدمت من أجل الإجابة عليه ولم أسأل بعد أن تيقنت بأن والدي كان قد رحل إلى الرفيق الأعلى لكنني أصبحت في تلك اللحظة متشوقاً كي أعرف كيف رحل؟لكن قبل ذلك قفزت إلى ذهني صورة والدي في منتصف خمسينات القرن الماضي عندما صحوت من نومي (وأنا طفل صغير عمري ست سنوات) عندما ودعنا ونحن نيام فوحدته يرتدي القميص والبنطال الكاكي والحطة والعقال على غير عادته. 

imagesca2qtsps1
يا ماما ليش الكويت تبعد عني خلاني 

وما لفت نظري أكثر في ذلك الوقت أن أمي كانت تحضر له أغراضه وهي تبكي ولم أكن أفهم ما يدور من حولي لكنني بعد ذلك فهمت أنه كان مسافراً إلى الكويت وتذكرت كذلك في الحال عندما سمعت أمي وهي تقول لنا:إن والدكم قد وصل سالماً إلى الكويت وعلى إثر ذلك أقامت ثلاث ليال متصلة من الغناء والأفراح إبتهاجاً بوصوله سالماً وكان مما أتذكره من ذلك الغناء:يا ماما ليش الكويت تبعد عني خلاني وفي تلك الأثناء قطع إبن عمي حبل أفكاري عندما بدأ يروي لي ما حدث مع والدي حيث قال:

scan10448
إبن عمي أبو العبد في ذلك الوقت

لم أصدق أن عمي في ضيافتي فهو يدخل بيتي لأول مرة وقد وصلنا متعباً قلقاً يريد السفر إلى بلده بأقصى سرعة ممكنة وطلب مني أن أرافقه إلى السوق فوراً فلم أعترض على طلبه هذا لكنني طلبت منه أن يستحم أولاً فوافق على الفور وما أن خرج من الحمام حتى كان الغداء جاهزاً فتناولناه سوياً وخرجنا إلى السوق معاً وهناك طلب مني أن أدله على صديق قديم له في الزرقاء يمتلك محلا لبيع الأقمشة وفي هذا المحل يتجمع القادمون من منطقة سلفيت والمغادرون إليها وعندما وصلنا ذلك المحل وجدناه يعج بالناس وبعد حوار قصير مع صاحب المحل سمعته يقول له:خذ هذا المبلغ 60 ديناراً ليكون أمانة عندك إذا حدث لي أي مكروه لا قدر الله على ألا تسلمه إلا إلى ولدي جميل ليكمل به تعليمه.

untitled
مقهى الأدلة 

وبعد أن ودع صاحبه وخرجنا من عنده طلب مني أن أرافقه إلى مكان تجمع الناس الذين يودون السفر إلى الضفة الغربية تهريباً وأخذته إلى مقهى يجتمع فيه الأدلة وكل من يرغب بالسفر إلى هناك وقمنا يعقد صفقة مع أحد الأدلاء كي يوصله إلى الجانب الفلسطيني من نهر الأردن بعد أن إتفقنا معه على أن يدله على مكان سهل وآمن ليقطع منه النهر وعلى هذا الدليل أن يبقى في إنتظاره حتى يصل إلى الضفة الأخرى منه وسافر مع الدليل بعد أن ودعني إلى الغور بالسيارة وبعدها يواصل سير ه على الأقدام حتى يصل إلى النهر. 

sdfgfdhghgfhghgfhfghfg
وكان العسكري المسؤول صديق قديم لعمّي 

وفي طريقهم ـ عمّي والدليل ـ وقبل أن يصلوا النهر مرّوا عن نقطة عسكرية أردنية وإذا بالعسكري المسؤول صديق قديم لعمّي يدعى (عبدالحميد رزق الله) من بلدة (مزارع النوباني) فنصح عمي ألا يقطع النهر في هذه الفترة لأن اليهود هذه الأيام شرسون أكثر من اللزوم وعليه أن يعود إلى عمان حتى تهدأ الأمور لكن عمّي (رحمه الله) رفض وأصرّ على السفر ولم يسمع كلام صديقه فاضطر صديقه العسكري هذا أن يراقبه حتى قطع النهر إلى الضفة الغربية. 

ygLVIm03120205
جرافة لجمع حصاد ما قتلوا في ذلك اليوم

وقبل أن يختفي عن أنظار صاحبه وإذا بدورية صهيونية تفاجئه فاحتمى بصخرة كبيرة وبدأ يرفع رأسه بين الحين والآخر ليراقب تحركاتهم فرآه أحد أفراد الدورية وأطلق عليه النار وبعد أن تأكد اليهود من موته واصلوا طريقهم لقتل غيره فهذه الدورية مختصة في القتل فقط أما الدفن فله أناسه فبعد أن يقترب اليوم على نهايته يأتون بجرافة لتجمع حصاد ما قتلوا في ذلك اليوم وتحمل الجثامين بعد أن يعطوا كل جثة رقماً يليق بها ثم يغطونهم بالتراب في مقبرة خاصة سموها مقبرة الأرقام. 

4ffcd8ac3231c1bb1ab1c719c1475b17_485250_4669484620861_1152500261_n
مخفر السلط

حدث كل هذا لعمي أمام عيني صديقه العسكري فلم يتحمل ذلك العسكري ما  كان قد رأى فذهب سريعاً وقطع النهر وأحضر جواز سفر عمي وأشيائه البسيطة التي كانت معه وعاد ثانية إلى مكان عمله واحتار صاحبه فيما سيفعله بهذه الأغراض فوجد أن أفضل طريقة هي إبلاغ مركز الشرطة بما رأى وقام بتسليم أغراضه إلى مخفر السلط وبعد يومين من سفر عمي وإذا بالمخفر يطلبني للحضور وذهبت في الحال وأبلغني الضابط المسؤول بما حدث لعمي وأعطاني جواز سفره ومتعلقاته هذا كل ما حصل عندنا لكنك لم تقل لي ما كان قد حصل عندكم؟.  

imagesCA69WN6H
لم يبق هناك من خيول ليربطها

قلت:بعد أن وصل الخبر إلى مسامع الناس عندنا إنقسم هؤلاء الناس إلى قسمين:قسم يقول عليكم تبليغ أهله بما حدث والقسم الآخر يقول لا تبلغوهم حتى يتأكد الخبر وبقينا في حيص بيص فأرسلوني إلى عندكم لأستكشف لهم الخبر وأقطع لهم الشك باليقين وقالوا لي:إذهب ولا تقلق على موضوع العودة فهي مؤكدة بعد شهر أو شهرين على الأكثر فها هو الرئيس جمال عبدالناصر يُعد لهم ما يستطيع من قوة ومن رباط الخيل فضحك إبن عمي وقال:أما قوته فرأيناها على أرض الواقع وأما رباط الخيل فلم يبق هناك من خيول ليربطها. 

imagesCAHYMZWW
خلوة مع نفسي

لم أفهم ما قاله أو ما قصده إبن عمي بقوله هذا لكنني أفهمته أنني متعب مما سمعت ورأيت في هذا اليوم وأنا بحاجة إلى خلوة مع نفسي وفي الصباح صحوت مبكراً وبدأت أجهز نفسي للعودة كي أؤكد الخبر الذي من أجله كنت قد قدمت وعندما رآني إبن عمي سألني:خيراً إن شاء الله قلت له:سأسافر اليوم وليس غداً كي أخبرهم بما كان قد حدث فقال مخاطباً نفسه:أحسن كنا بواحد واليوم سنصبح بإثنين ثم على صوته بشئ من التهكم حيث قال بلهجة الأمر:عليك أن تنتظر جمال عبدالناصر عندنا كي تعود معه إلى بلدك كما أبلغوك وبدأت أنتظر … وأنتظر … ولا زلت أنتظر حتى هذه اللحظة.

مشاهد من ذاكرة الرحيل

رأيان حول “هكذا إستشهد والدي

  1. فعلا حين يفوت الأوان .. تفوت معه أشياء كثيره ..
    فالعمر قد فات
    والصبر قتل ..!!
    والقلب مات…
    لكننا صامدون بالتحدي مصرين على العيش مهما كلفنا ولرسالة الحياة بقية

    Liked by 1 person

اترك رداً على جــمــيــل عــبــود إلغاء الرد