يوم مولدي


_______0001_190x0
اليوم الأسود 5/حزيران/1967

قالوا لي:إنك ولدت في يوم 6/11/1949 وكتبوا لي ذلك في شهادة الميلاد لكنني في الحقيقة ولدت مرتين مرة في اليوم الذي أخبروني عنه ولم أكن أعرف ما كان يدور من حولي في ذلك اليوم ومرة أخرى في اليوم الأسود 5/6/1967 الذي كنت أعي تماماً ما يدور من حولي لكنني لم أكن أفهمه فقد كنت قبل ذلك اليوم أظن أن الحب هو مجرد إبتسامة ترتسم على الشفاه فقط وأن الحزن هو مجرد إسالة الدمع من العيون وكنت إذا رأيت دموع الكبار أذرف دمعي حزناً على حزن غيري وإذا رأيت إبتسامة من الكبار إبتسمت وأحسست بالأمن والأمان.

images-1
إسرائيل يتّمت كل هؤلاء مرة واحدة

وبقيت على هذا الحال إلى أن جاء هذا اليوم الأسود فأخذ مني والدي وجعلني يتيماً ولم يكتف بذلك بل أخذ من أمي زوجها وجعلها أرملة قبل الأوان وحمّلها من المسؤولية ما لا يطيق على حمله كثير من الرجال واستبدل أمني خوفاً ورُعباً وسرق مني أحلامي الصغيرة وطموحاتي الكبيرة عندما أصبحت من غير معيل ولا سند ولا موجه وأصبح لزاماً عليّ أن أواصل دراستي كي أحقق وصية والدي الأخيرة وحُلم أمي بعد أن وجدت نفسها في يوم وليلة مسؤولة عن أسرة بكاملها مكونة من أربعة أولاد وبنت خامسة.

scan10203
وعندما كبرنا كانت على سرير المرض

فكان عليّ أن أكبر بسرعة لا بل علي أن أسابق الريح كي أستطيع أن أقف بجانب أمي التي كانت كلما اشتدت عليها الأزمات تختلي بنفسها لتبكي وحدها دون أن يراها أحد إلا أنني كنت أراقبها عن كثب بين الحين والآخر وعندما أمسك بها متلبسة أغني لها أغنية (بكرا يا حبيبيفتقطع بكائها على الفور لتقول:موت يا حمار حتى يأتيك العَليق فأنتم كلكم الآن صغار في السن وما أن تكبروا ويشتد ساعدكم الله وحده هو الذي يعلم كيف وأين سأكون!؟. 

283410zarhouneune-940436368283410
عملت في نقل الرمل من الوادي إلى ورشات البناء

هكذا وجدت نفسي بين ليلة وضحاها بعد هذه الحرب اللعينة مطلوباً مني إعالة نفسي أولاً ومساعدة أمي على حملها الثقيل ثانياً وفوق كل ذلك تحرير فلسطين ثالثاً للانتقام ممن قتلوا أبي ومن أجل تحقيق هذه الأهداف الكثيرة والكبيرة كان عليّ تجزئتها كي أستطيع تحقيقها فعملت في نقل الرمل على ظهر الحمار من الوادي إلى ورشات البناء وأنا صغير في السن وهذه المهنة الجديدة لم يصمد فيها أحد غيري من أبناء جيلي بعد أن تركتها ثم بعد ذلك عملت في الكسارات لكنني لم أستطع تحمل هذا العمل المضني فهو عمل شاق وصعب على من هم في مثل سني.

images-2
جامعة حلب 

وعندما انتقلت من الضفة الغريية إلى الضفة الشرقية للأردن حاولت العمل هناك لكنني لم أفلح في التوفيق بين دراسة الثانوية العامة وعملي وما أن التحقت بالجامعة حتى بدأت التدريس مع وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين في مخيم النيرب بمدينة حلب ليس بالساعة كما كان شائعاً في تلك الأيام بل باليوم الدراسي كاملاً كي أتمكن من تدبير مصروفي أولاً وإرسال ما يزيد منه إلى والدتي وإخوتي في فلسطين المحتلة.

Untitled
خرطوش الصيد 

وقبل ذلك لم أر البندقية في حياتي السابقة إلا من خلال خرطوش الصيد الذي كنت أراه مع الصيادين وهم يطاردون طيور الشنانير والحمام البري والغزلان والأرانب البرية من مكان إلى آخر ولم أكن أعلم أن هذا الخرطوش كان يستخدم في قتل الإنسان أيضاً لكن من هذه الحرب تعلمت أن صيد الطيور والغزلان ما هو إلا تدريب عمليّ على صيد الإنسان لأخيه الإنسان في المستقبل فقد رأيت اليهود وهم يطاردون شعبي من مكان إلى آخر لصيدهم وقتلهم كما يصيدون الغزلان والشنانير.

جثث ملقاة في الجبال طعاماً للجوارح والغربان

أما الموت فكان عندي شيئاً مقدساً لا تشوبه شائبة فلم أر جثة في حياتي إلا وهي ملفوفة بالقماش الأبيض تفوح منها رائحة الورد والياسمين وحولها يلتف كثير من الرجال يأتون من كل حدب وصوب وهم يُهللون ويُكبرون ويحمدون الله حتى عند الموت ويسيرون بها في موكب جليل يليق بها إلى المقبرة ونساء من خلفهم تبكي الفقيد لكن هذه الحرب جعلتني أرى الجثث وهي ملقاة في الشوارع وفي الجبال والصحاري طعاماً للجوارح والغربان.

Untitled
أسرى 

كذلك لم أر في حياتي أسرى ولا غنائم حرب إلا من خلال كتب التاريخ التي كانوا قد درسوني إياها في المدرسة عندما كان المسلمون الأوائل يفتحون البلاد والأمصار لكنني في هذه الحرب رأيت جموعاً من الأسرى وهي ترفع الرايات البيضاء وتستجدي عدّوها ليبقيها على قيد الحياة كذلك لم أسمع بالهزيمة قط لأن كتب التاريخ تدرسنا الانتصارات فقط فكانت أيامنا كلها احتفالات فهذا صلاح الدين الأيوبي كان قد استرد القدس من الفرنجة وهذا خالد بن الوليد كان قد فتح بلاد الروم وهذا عبدالرحمن الداخل كان قد فتح اسبانيا وهذا جعفر الطيار يمسك بالراية بذراعيه بعد أن قطعت يداه هذا كل ما كنا نعرفه من التاريخ.

ShowImage
تحول الأعداء كلهم إلى جنود عندما طُلب منهم 

كذلك لم أر في هذه الفترة من حياتي جندياً عربياً واحداً بلباس مدني بمعنى أنه لم يكن في قريتنا جندي واحد في الجيش العربي كي يدافع عنها أو يوجه الناس إلى فعل ما ينبغي فعله في مثل هذه الحروب لكنني في هذا اليوم رأيت بأم عيني كيف تحول الأعداء جميعاً إلى جنود يدافعون عن بلدهم المزعوم عندما طُلب منهم ذلك ورأيت الجندي العربي وهو يخلع ملابسه الداخلية التي كانت بيضاء ناصعة وأصبحت ملطخة بالصفار وهو يرفعها عالياً على رأس بندقيته علّه يضمن حياته.

 أضحية 

كذلك لم أر في حياتي جندياً عربياً يرتدي نظارة طبية فهم يشترطون على من يتطوع في الجيش أن يحقق شروط (الأضحية) فعليه أن يحلق ذقنه ويلمع حذاءه ونياشينه يومياً ليكون جاهزاً للنحر في أي يوم يحددونه له ومن هذه الحرب تعلمت أيضاً أن الجندي عند الأعداء هو أضحية للوطن أما الجندي عندنا فهو أضحية للحاكم وشتان بين أضحية الحاكم وأضحية الوطن وكنت أرى الشرطي العربي بلباسه الداكن وطاقيته التي تغطي رقبته وعندما سألت عنها قالوا لي:أنها طاقية خالد بن الوليد لكن هذه الحرب جعلت من طاقية خالد بن الوليد تهمة وعليه أن يسير مكشوف الرأس ليضمن سلامته فلم تعد طاقية خالد بن الوليد تحميه. 

untitled199
الحبيب بو رقيبة رئيس جمهورية تونس آنذاك

جاء الحبيب بو رقيبة رئيس جمهورية تونس آنذاك وزارنا في القدس ورام اللة فلم ير أثراً من آثار الاستعداد للمعركة التي يعد الحكام العرب شعوبهم بها وبدلاً من ذلك رأى بيوتاً وقصوراً تناطح السحاب ولا تنم إلا عن راحة واسترخاء وسلام فكان هذا الرجل صادقاً مع نفسه ومع غيره فهو من أحفاد المفكر العربي (إبن رشد) الذي لا يقول إلا الحقيقة مهما كلفه الثمن وعندما قالها ونصح العرب والمسلمين بالصلح مع إسرائيل قامت قيامته بعدها واتهم  هذا الرجل بالخيانة العظمى والعمالة للعدو الصهيوني وانفجرت المظاهرات في مدن الضفة الغربية كلها وكنت قد ساهمت فيها لكنني لم أكن أفهم ما يدور من حولي.

hqdefault (1)
قرية السموع

وفي هذه الأثناء أيضاً عندما كان للموت ثمن اقتحم اليهود الصهاينة مدينة السموع الأردنية في ذلك الوقت وقتلوا شخصاً أو شخصين من سكان هذه المدينة المناضلة وعلى إثرها انطلقت المظاهرات في جميع أنحاء الضفة الغربية تأييداً ودعماً ومؤازرة لأهل السموع الأبطال وكنت أرى بنفسي الملثمين وهم يدخلون علينا غرف التدريس في مدارسنا ويُخرجون الطلاب منها للتظاهر تأييداً لأهل السموع ورأيت بعيني أيضاً كيف سيطرت قوات البادية الأردنية على الموقف دون أن أدري ماذا يحدث؟أو ماذا سيحدث مستقبلاً؟.

download
خالد بن الوليد

إلى أن جاء هذا اليوم الأسود وفسر لي كل ما كنت لا أفهمه ورأيت البندقية والدبابة والطائرة ورأيت الشرطة بدون لباس خالد بن الوليد ورأيت الجنود ولكن بلباس الحريم وتعلمت الخوف وشعرت بعدم الأمان والقلق وتعرفت على أفراد الشرطة والجيش والفرسان المهزومين وإذا بهم مثلنا أناس عاديون بسطاء بعد أن كنت أراهم قاهرين جبارين أنا متأكد من أن هذا الموضوع قد أصبح قديماً الآن وأشبع كتابة وقراءة وبحثاً ومناقشة من قبل الكتاب والسياسين والمعلقين والناس أجمعين حكاماً ومحكومين لكنني أصرّ على أن أروي لكم مشاهداتي وأنا طفل صغير لا أعرف السياسة ولا الدبلوماسية.

مشاهد من ذاكرة الرحيل

3 آراء حول “يوم مولدي

    • ليس الابداع بالكتابة بقدر الابداع في اجتياز المحن … رحم الله جدي الشهيد واسكنه فسيح جنانه

      إعجاب

      • سيرةجمسلة وكتابة سردية وتاريخية مشوقة … سلمت يداك استاذ جميل

        إعجاب

اترك رداً على ضياء عبود إلغاء الرد