
حجزت مع مجموعة سياحية متجة من عمان إلى لبنان مع إحدى شركات السياحة الأردنية وكان موعد إنطلاق هذه الرحلة عند منتصف الليل وقبل أن ينتصف ذلك الليل تحركت إلى مقر هذه الشركة الكائن في (الصويفية) وهناك وجدت كل من كانوا قد حجزوا مثلي في هذه الرحلة قد وصلوا وما هي إلا دقائق معدودة حتى حضر (الدليل) وطلب منا الصعود إلى الباص فلم نتمكن من التعرف على بعضنا البعض في تلك اللحظات.

وما هي إلا دقائق أخرى معدودة حتى إمتلأ الباص من كل فئات المجتمع فكان منهم كبار السن ممن يحتاجون إلى المساعدة حتى عند ركوب الباص ومنهم الشباب والصبايا وهم في عز شبابهم ومنهم الأطفال وهم في عمر الزهور ومنهم الرجال الرجال والنساء النساء وبعد أن تفقد الدليل المجموعة كلها بالأسماء أمر السائق بإغلاق الباب والتحرك فوراً على بركة الله وأغلق السائق الأبواب وأطفأ الأنوار وشد الرحال إلى لبنان.

وإذا بأحد الركاب يطلب من السائق أن يُشغّل مسجله على أغنية سياحية فوضع السائق شريطاً في مسجلته يحتوي على أغنية أطربت كل من هم بالباص صغيرهم قبل كبيرهم والمرأة قبل الرجل واتحد الجميع مع الجميع وكوّنوا (جوقة) لمطرب الشباب (محمد إسكندر) عندما بدأ يغني أغنيته المشهورة (إحنا ما عنا بنات تتوظف بشهادتها) وما أن إنتهت هذه الأغنية التي رقّصت الجميع حتى صاح الجميع في السائق:عيدها …. عيدها.

وبدأت في داخل نفسي أبحث عن المسؤول عن هذه (الرّدة العكسية) في تفكير هذا الجيل لأنه إذا ساد فكر مثل هذه الأغنية فأبشروا بنكسة أخرى تكون أشد ايلاماً من النكسة السابقة وبنكبة أخرى تكون أقسى من النكبة السابقة لأن هذه الأغنية تهدم كل ما بنته الأجيال السابقة على مر السنين وتعيد المرأة إلى عصر الحريم وتعيدنا إلى المربع الأول.

في الحال عزيت هذا الإنحطاط في التفكير الذي بدأ ينتشر في عقول أبناء هذا الجيل ويتسلل إليها إلى فشل نظامنا التعليمي ومنتجاته ومخرجاته فهنيئاً لوزارات التربية والتعليم في بلادنا العربية كلها من المحيط إلى الخليج على هذه الأجيال التي كانت قد خرّجتها دون أن تعلمهم التفكير فجعلتهم بذلك فريسة للسيد محمد اسكندر وزمرته وتركتهم يهدمون كل ما بنته هذه الوزارات في ساعات قليلة.

لم أتحمل ما سمعته من كلمات هدّامة على لسان هذا المطرب الكبير وما رأيته من سلوك لهذه العينة العشوائية من هذا المجتمع الجديد وبدأت أحاور نفسي بنفسي عن هذا المطرب (الفنان) وهذا المجتمع (المخملي) الذي أصبحنا نعيش بداخله فخفت أن لا أصل إلى نتيجة مع نفسي (لا سيما إذا أصر هذا المطرب ومن ورائه على موقفهم هذا) فقمت بنقل هذا الحوار الذي جرى بيني وبين نفسي لمن يريد منكم أن يقرأ علّه يكون الحكم.

بدأ مطرب الجيل محمد إسكندر أغنيته المشهورة(إحنا ما عنا بنات تتوظف بشهادتها) بصوت هادىء منخفض خجول غير مفهوم عندما قال لمحبوبته(كل ما قلبي عم ينبض وبعزك بتبقي ملكة وما بقبل تنهزي) فهو يُعد حبيبته أن تكون ملكة على الرغم أن محمد إسكندر ليس ملكاً ومحبوبته تعلم ذلك إلا أنه يعدها أن يجعلها ملكة فكيف لها أن تكون ملكة وهو ليس بملك؟لا أعلم لكن ما أعلمه جيداً أن الملكة لا يهزها إلا الملك أو ملكة مثلها فهل ستصدقه محبوبته في قوله هذا لا سيما أنها كما يقول عنها أنها متعلمة إلا إذا كان قصده أن يجعلها (ملكة نحل) ليس إلا.

ثم يتابع محمد إسكندر أغنيته ليقول (شغلي وسهري وتعبي عشانك عندي فيهن لذة) فراجعت ذاكرتي واستعنت بكتب التاريخ كلها فلم أجد إنساناً في هذا الكون كان قد إختصر العالم كله بمحبوبته حتى (عنترة العبسي) عندما أحب عبلة لم ينس في يوم من الأيام إنتزاع حريته والدفاع عن عشيرته وقومه ووطنه لكن السيد إسكندر عندما قال هذا الكلام فلا أعتقد أنه يخاطب عقلاً بشرياً يفكر!بل يخاطب (دمية) يرسم لها طريقها ويحدد لها ما يجوز وما لا يجوز في حياتها لأنه يعلم جيداً أن ما تعطيه مدارسنا وجامعاتنا من شهادات لا تصلح إلا أن تكون جواز سفر للزواج فقط.

بعد ذلك يعلو صوته أكثر ويتحمس أكثر كي يزيد المستمعين حماسأ حين يقول(نحنا ما عنا بنات تتوظف بشهادتها) وهو بهذا عيّن نفسه ناطقاً باسم الناس كافة فهو عندما يقول نحنا فمن أنتم؟ومن أيّ كوكب أنت قادم يا هذا؟أنسيت أن الإسلام كرّم المرأة وجعل لها كياناً مستقلاً بذاتها وفوق ذلك كان قد اعترف لها الخليفة عمر الفاروق بأنها قد أصابت عندما أخطأ هو هذه الكلمة نحنا لا يستخدمها إلا من لا يجرأ على مجابهة الناس والواقع الذي يعيش فيه فيتخفى بينهم ليقول ما لم يستطع قوله وهو بمفرده ولكن بلسان الجماعة فالطالب في المدرسة عندما لا يفهم ما يشرحه المدرس في الفصل لا يقول:أنا لا أفهم ما تقول يا أستاذ بل يقول:نحن لا نفهم الدرس.

لم يوضح لنا هذا المطرب موقفه من عمل المرأة فلم نعد نعرف أنه ضد عمل المرأة بشكل عام أم هو ضد عمل المرأة المتعلمة فقط وبهذا يكون قد إختزل جميع النساء في محبوبته المتعلمة الساذجة ونسي أن عمل المرأة موجود قبل محبوبته وسيستمر بعدها ونسي كذلك أن يطلب من وزارات التربية أن تعدل على مخرجات التعليم في ها لتصبح (نحن نعلم بناتنا كي يصبحن رئيسات جمهوريات قلوب أزواجهن) وليس لبناء شخصياتهن وتربية أولادهن ومشاركة أزواجهن في بناء الأوطان.

والعجيب في هذه الأغنية أنها ليست كمثيلاتها من أغنيات عصرها فمن عادة مطربي هذا الجيل أن يوهم أحدهم محبوبته بأنها الوحيدة التي تسكن قلبه ولم يعرف نساء قبلها حتى أنه ربما حرّم على نفسه النساء بعد زواجه من محبوبته لكن محمد إسكندر في هذه الأغنية كان جريئاً ومجدداً فلم يقل لها في هذه الأغنية بأنها الوحيدة التي تسكن في قلبه بل قال لها أنهن كثيرات ويحتجن إلى رئيسة جمهورية لتدير شؤونهن ولها الفخر والإعتزاز بأنه كان قد إختارها من بينهن لهذا المنصب الكبير.

ويتابع مطرب الجيل محمد اسكندر أغنيته التي اشتهرت ليقول (شغلك قلبي وعاطفتي وحناني مش رح تفضي لأي شيء تاني بيكفي إنك رئيسة جمهورية قلبي) ولم يقل لنا ولا لها عن ما ستفعله محبوبته وهي في بيته أثناء غيابه غير إلتهام الأكل والزيادة في الوزن بينما هو يتنقل بين المعجبين والمعجبات في الملاهي الليلية وما هي إلا أيام معدودة وتكتشف أن جسمها بدأ يترهل ولم تعد تعجب نفسها فكيف ستعجب غيرها؟وما عليها إلا أن تعتني بشؤون محبوباته.

ويتابع مطرب الجيل بعد أن نصّب نفسه ناطقاً باسم الجميع ثانية ليقول (عنّا البنت بتدلّل كلّ شي بيجي لخدمتها) فهو بهذا يعيدنا إلى عصر الحريم ثانية فهو يريدها قابعة في خدرها والخدم والحشم من حولها يقولون لها شبيك لبيك يا سيدتي نحن بين يديك وتجلس في بيتها مدللة مكرمة كما يريد حضرته فيزداد أكلها ويخف مجهودها فيزيد وزنها ويذهب جمالها بعد أن يتركها قابعة في البيت ليبحث عن غيرها بطريق مشروع أو غير مشروع بحجة أنها لم تعد تليق بسيادته بعد أن ذهب جمالها.

ويتابع محمد إسكندر هذه المرة ولكن بعد أن لبس ثوب الناصحين لها ليقول لها (شيلي الفكرة من بالك أحلالك ليش بتجيبي المشاكل لحالك) ثم يبدل ثوبه ليصبح في ثوب المخادعين حين يوهمها بأن العمل للمرأة يأخذ معه جمالها حين يقول لها (تنفرض بقبل تشتغلي شو منعمل بجمالك) وكأن الجمال فقط يأتي من الجلوس في البيت (وما يتبعه من فراغ ومن إلتهام للطعام وعدم بذل الجهد الكافي) والتفكير في ما يرضي الزوج.

ويتابع محمد إسكندر خداعه لمحبوبته بشكل أقوى هذه المرة ولم ينس أن يضرب على الوتر الحساس حين يهددها بالمدير فيقول (بكرا المدير بيعشق وبيتحرّك إحساسو) فما من صغيرة أو كبيرة في حياتنا اليومية إلا ويدخل هؤلاء المفسدين الجنس فيها فهم مهووسون به عاشقون له حتى أنهم أصبحوا يذكّرون ويُؤنثون كل شيء في حياتهم فإذا هم أرادوا تحطيم أي فكرة عظيمة يفتشون عن الجنس فيها ويبرزونه للعامة ويُخوّفون الناس من هذه الفكرة العظيمة وعندها سيجدون من يدعمهم ويؤيدهم فالرأي العام جاهز سلفاً لتقبل ما يقولونه للناس.

أذكر جيداً في نهاية الخمسينات من القرن الماضي عندما غزت (الشيوعية) بلادنا وأرادوا مكافحتها سرعان ما أدخلوا (الجنس) في المعركة وأشاعوا بين الناس أن الشيوعي ليس عنده محرمات فقد يستبيح أخته أو خالته أو عمته وصدّق الناس كلامهم ونبذوا الشيوعية وقتها واليوم وقد تعلمت البنت وبدأت تأخذ دورها في المجتمع عز ذلك على إسكندر ومن هم على شاكلته فربطوا لنا عمل البنت بإحساس الجنس عند مديرها الذي هو حتماً سيغرم بها وبالتالي لا داعي لعملها وخروجها من البيت.

وعاد هذا المطرب مرة واحدة إلى أصوله العربية فنحن العرب دائماً نحب أن نعرض أنفسنا للآخر بأننا أبطالاً في كل شيء فها هو يقول لها هذه المرة (وطبيعي إني إنزل هدّ الشركة ع راسو) فهو قد إفترض ضعف الشخصية في محبوبته واتهم المدير (أي مدير) بأنه زير نساء ونسي الدين والقانون والعادات والتقاليد كلها مرة واحدة وضمن هذه الفرضيات الخاطئة نجح في إخافة السّذج من النساء من العمل وهكذا نحن العرب نفرض مقدمات خاطئة ونبني عليها إستنتاجات حتماً ستكون خاطئة ونستخلص منها نتائج مغلوطة ونعممها على الجميع.

ثم ترك هذا المطرب الغناء ليدخل إلى حقل التمثيل هذه المرة عندما قال لها (حقوق المرأة عَ عيني و عَ راسي) وبهذا فقد إنضم هذا المطرب إلى زمرة من يقولون ولا يفعلون ولم يكتف بكل هذه الطلبات من محبوبته بل طلب منها أن تراعي إحساسه حين يقول (بس يا ريتك بتراعي إحساسي) فهو حساس جداً يا حرام ونسي نفسه ونسي قوته الخارقة والقادرة على هدم الشركة على رأس مديرها حين يقول: (وجودك حدّي بيقوّيني وهيدا شي أساسي).
