يـوم يـفـرّ الـمـرْءُ مـن أبـيــه


المكان: السالمية ـ الكويت
الزمان: فبراير1991
imagesCASKSEBW
 الأسلحة المُتبقية من أسلحة الجيش العراقي المهزوم 

بعد أن حررت أمريكا دولة الكويت من قبضة الرئيس العراقي صدام حسين ودخل الجيش الكويتي أرض الكويت قام هذا الجيش على الفور بتجميع كل أنواع الأسلحة المُتبقية من أسلحة الجيش العراقي المهزوم وقام بتخزينها عشوائياً في مخفر السالمية وبجانب هذا المخفر تقع مرافق مُختلفة تضم جمعية تعاونية ومستوصفاً وبنوكاً ومطاعم ومكتبة وغير ذلك وكان من يعيش على أرض دولة الكويت في تلك الفترة وأنا منهم محروماً من كل شيء يمتّ إلى الحضارة بصلة فلا ماء ولا كهرباء ولا غاز ولا وقود ولا هاتف ولا خضار ولا فاكهة ولا حتى خبز.

crop,488x320,mixmedia-11012156Ua9H9
طابور من أسطوانات الغاز المتلاصقة والمتماثلة

وفي هذه الأثناء أعلنت جمعية السالمية التعاونية عن وصول شحنة من أسطوانات الغاز القادمة من الخارج فحضر كل من كان يسكن في السالمية ومعه كل الأسطوانات الفارغة المتوفرة لديه وعندما سمعتُ بهذا الخبر وضعت أسطواناتي الفارغة في سيارتي ومعها ولدي الأكبر وعمره في ذلك الوقت 13 سنة واتجهت إلى الجمعية وهناك وجدت طابوراً لكنه ليس بطابور من الناس كما هي العادة ولكنه طابور من أسطوانات الغاز المتلاصقة والمتماثلة كان قد تشكل لم أشهد مثله في حياتي فقد كان من المفروض أن يوازيه طابور آخر من الناس إلا أن ذلك لم يحصل فقد قام كل شخص بتمييز أسطواناته بطريقته الخاصة دون أن يقف بجوارها. 

untitled
انفجار رهيب 

وما أن وصلت إلى جمعية السالمية هذه حتى ميزت أسطواناتي عن غيرها وألحقتُها بمثيلاتها وأخذت أنتظر كغيري من الناس قدوم الشاحنة وانشغلنا بالحديث لقتل الوقت ليس إلا لأننا كنا قد مللنا النقاش والحوار وبينما نحن في غفلة من أمرنا وإذا بانفجار رهيب يقع في المخفر يُسكتنا عن الكلام ويفتح عيوننا باتجاهه ثم تلاه مجموعة من الانفجارات العشوائية في جميع الاتجاهات جعلت الجميع ينبطح أرضاً وبدأت مختلف أنواع الأسلحة تنفجر وتُطلق عياراتها النارية في جميع الاتجاهات وبدأت جميع ألوان الطيف الشمسي في الظهور مما جعلني أنسى ولدي وجعلت ولدي ينساني بعد أن انبطح الجميع أرضاً ومن منهم لم ينبطح أرضاً أسرع واحتمى بساتر ولم يبق غير طابور أسطوانات الغاز صامداً لا يتزحزح من مكانه.

image20211
لم أجد ولدي 

وبعد أن سكنت العاصفة بدأتُ أبحثُ عن ولدي في كل مكان فلم أجده فركبت سيارتي وقلت في نفسي:سأذهب للبيت أولاً كي أُطمئنْ زوجتي وبقية أولادي لأن خبر الإنفجار كان قد إنتشر ولا بد له من أن يصل لهم بطريقة أو بأخرى لأن الخبر السيئ ينتشر بسرعة ثم أعود ثانية لأبحث عنه مرة أخرى إذا لم أجده وما أن وصلتُ البيت وإذا بالولد وأمه وأخوته بانتظاري على البلكون فسررت كثيراً لرؤيته على الرغم أن حالته كانت لا تسرّ أباً بعد أن تغيرت ملامح وجهه وبعد أن إمتصت من الخوف والرعب حتى الإحمرار أما شعره فكان منفوشاً وملابسه عليها آثار دماء بعد أن جرّحته الأرض التي كان قد زحف فوقها بعد الإنفجار.

timthumb.php
انبطح الناس أرضاً فانبطحت مثلهم 

وبعد أن تمالكت نفسي إحتضنته ثم قبلته وحاولت أن أزيل عن شعره ما علق عليه من غبار بيدي لكنني لم أفلح فالأمر أصعب من ذلك بكثير ولن يُزيله إلا الحمّام بعدها سألته:كيف وصلت قبلي يا بني؟أيعقل أن يصل الولد قبل أبيه؟فقال:بعد أن توالت الإنفجارات واختلط الحابل بالنابل وبعد أن إنبطح الناس أرضاً إنبطحت مثلهم ولم أعد أميّزك من بين الناس المنبطحين وبعد إنتهاء هذه الإنفجارات تعرفت على جار لنا فأحضرني معه إلى البيت بعد أن بحثنا عنك ولم نجدك.

untitled35فقلت له على الفور:أتحفظ من القرآن شيئاً؟فقال:نعم فقلت له:أكمل الآية الكريمة (يوم يفر المرء من) وأكمل إلى أن قال:صدق الله العظيم ثم تابع قائلاً:إذا كان إنفجار بسيط كهذا كان قد أنساني والدي وأنسى والدي ولده فكيف ستكون الآخرة يا ترى؟فقلت له:لا تهمل همّ الآخرة يا ولدي من  الآن عليك أن تنتبه لدنياك أولاً وأن تعش حياتك مع الناس بأخلاق المُتقين فالآخرة ستكون للمتقين إذا كان الولد والوالد أتقياء في الدنيا ويُعاملون الناس بما يُرضي الله ورسوله فسيلتقون في الآخرة بعد الحساب كما التقينا أنا وأنت اليوم بعد الإنفجار.

images
العاقل من إتعظ بغيره!

قبل هذه الحادثة كنت إذا سمعت  الآية الكريمة (يوم يفرّ المرءُ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) أمرّ عليها مرور الكرام أما بعد ذلك اليوم  المشهود فقد فهمت معناها عملياً وليس نظرياً فقط كما كنت أقرأها في الماضي وكل ما أريده ممن يقرأ هذا المقال أن يفهم عملياً معناها كما فهمتها أنا ولكن بدون أن يُعلمه معناها إنفجار مثلي لأن العاقل من إتعظ بغيره.

مشاهد كويتية بعيون فلسطينية من حرب الخليج

عظم الله أجرك يا فسيلة الليمون


lemon_tree_berkeley1
شجرة الليمون

كان يا ما كان في قديم الزمان شجرة ليمون معمرة تكاد تكون أزلية في عمرها بالنسبة لي على الأقل!وكانت هذه الشجرة الكبيرة المعمرة تقع على مفترق طرق في أرض وعرة وعلى سفح جبل عال في الإرتفاع وبالقرب من عين ماء جارية مياهها صافية باردة كالشلال! فكان كل شخص يمرّ عن هذه العين يغسل وجهه ويديه ثم يشرب من نبعها الصافي ويجلس تحت شجرة الليمون الكبيرة للراحة والإستجمام مِن عَنَاء المِشْوَار وبعد أن يستظل بظلها يأكل من ثمارها ويسقيها مقابل ذلك دَلْواً مِن المَاء!.

images1ISVJTHE
أنبتت شجرة الليمون مِن أَحَد جُذُورهَا المُمْتَدة فسيلة كي تجرب معاناة الأم حتى ولو أنها شجرة!

فجأة أنبتت هذه الشجرة مِن أحد جذورها الممتدة إلى الجنوب فسيلة كي تجرب معاناة الأم حتى ولو أنها شجرة!وبدأت هذه الفسيلة ترتفع بجانب أمها وعلى بعد أمتار قليلة منها!لكن أحداً لَم يهتم بها على الرغم أن كل من كان يجلس تحت أمها كان يعلم بأنها أحق من أمها في السقاية والرعاية!لكنهم بالمقابل يعرفون أن هذه الفسيلة حتى الآن لا تسمن ولا تغني من جوع!فلهاذا كانوا يتجاهلونها لا بل يمروا عنها مرور الكرام!فلم تجد هذه الفسيلة المسكينة من يمدها بالماء غير أمها!وأخذت الأم تسقيها من مائها الخاص حتى كونت لنفسها جذوراً أخرى غير الجذر الذي يصلها بأمها وأصبحت هذه الفسيلة تعتمد على نفسها في الحصول على مائها!وما هي إلا بضع سنوات حتى أصبحت هذه الفسيلة توازي أمها بعد أن إرتفعت واخضرّت وأيعنت وأثمرت!.

OLYMPUS DIGITAL CAMERA
نسي المنافقون الأم وثمارها بعد أن أصبحت شاهقة في الإرتفاع والحصول على ثمارها أصبح صعباً عليهم ويحتاج منهم إلى مجهود أكبر!

فتحول الناس فوراً للجلوس تحت ظل هذه الفسيلة والإستظلال بظلها والأكل من ثمارها ولم ينسوا سقايتها في كل يوم!ونسوا الأم وثمارها بعد أن أصبحت شاهقة في الإرتفاع وأصبح الحصول على ثمارها صعباً عليهم ويحتاج منهم إلى مجهود أكبر!بعكس فسيلتها فكانت صغيرة في حجمها قصيرة في طولها يسهل عليهم قطف ثمارها وأصبحوا يسقون الفسيلة بدلاً من أمها ونسوا على الفور ما كانت تقدمه لهم الأم في الماضي!.

BenQ Corporation
عاقب الله تلك الفسيلة العاقة والمنافقون معها بأن جفف لهم نبع الماء وحوّل عنهم الطريق!.

واستمر حال هذه الفسيلة وأمها إلى أن بدأت أوراق الأم تصفرّ وتذبل وتسقط على مَرْأَى من كل من كان يجلس تحتها ويستظل بظلها!وَعَلَى مَرْأَي من فَسَيلتهَا أيضاً التي كانت قد أرسلت جذورها في غير إتجاه أمها ونسيت هذه الفسيلة أن أمها هي التي كانت قد أوجدتها!وليس هؤلاء الناس الجدد!فَما كان من الله إلا أن عاقب تلك الفسيلة والناس الجدد بعد أن تركوا الأم وتحولوا إلى إبنتها بأن جفف لهم نبع الماء الذي كان يسقيهم!وحوّل عنهم الطريق من مكانها إلى مكان آخر!ولم يعد أحد يرى هؤلاء المنافقين وهم يجلسون تحت هذه الفسيلة العاقّة!.

ذكريات في بلدنا