
صاحبنا: دعنا الآن من الماضي الجميل بكل حسناته يا سيدي ولنعش الحاضر كما هو لكن قبل ذلك كله أريد منك أن تجيبني على سؤال كان قد حيرني الآن فقل لي بربك يا رجل كيف هان عليك أن تصيح على شخص لا تعرفه يسير في الشارع؟ كي تحادثه وتجلس معه وحولك هذا العدد الهائل من هؤلاء الرجال والنساء والأولاد والبنات والأحفاد والأخوة والأخوات والأقارب والجيران؟(وأشار صاحبنا إليهم بيده بعد أن شاهدهم يسرحون ويمرحون من حوله).

الرجل المسن: آآآآخ … آخ …. يا ولدي بلمح البصر وبجرة قلم كان قد انتهى مشوار حياتي إلى موت بطيء كما تراه أنت اليوم.
صاحبنا: ومن أماتك يا رجل؟ فَالله وحده هو الذي يحيي ويميت وليس أحد سواه.
الرجل المسن: أماتني يا ولدي كل من تراهم يسرحون ويمرحون من أمامك ومن خلفك ومن على يمينك ومن على يسارك صغارهم قبل كبارهم نسائهم قبل رجالهم.

صاحبنا: أَيعْقل يا سيدي أَن يُمِيت الإِنسَان منا من كان قد أوجده وكبّره وربّاه وعلّمه في هذه الحياة؟.
الرجل المسن: إعلم يا ولدي (إن كنت لا تعلم) أن الإنسان منا في هذه الحياة يشبه حبة الليمون تماماً يحتفظ بها الأهل والأقارب والأصدقاء لما فيها من عصارة فقط وكلما كانت هذه الحبة ممتلئة بالعصير أكثر كلما إحتفظ بها الأهل والأقارب والأصدقاء أكثر وعندما يأخذوا منها كل عصارتها لا يعنيهم أين ستكون هذه الحبة ولا يهمهم مكان إقامتها؟.
صاحبنا: حديثك هذا يا رجل مليء بالحكمة والموعظة الحسنة وينم عن تجربة غنية مليئة بالأحداث والتجارب والخبرات فحدثني يا رجل أكثر عن هذه الحياة إذا سمحت.

الرجل المسن: ما أن ولدتني أمي يا ولدي حتى وجدت الجمِيع مِن مَن هُم حولي في استقبالي ملاعبين مداعبين لي يفركون شفاهي وخدودي ويضغطون على فمي وأسناني كي يعلمونني الابتسام وكانوا في ذلك الوقت يبتسمون لي بل يضحكون معي أكثر مما ابتسم لهم بكثير لا بل كانوا يطيرون فرحاً ودهشة عندما كنت ابتسم لأحدهم وبعد أن علّموني الابتسام أصبح شغلهم الشاغل وهمهم الوحيد أن يعلّمونني الكلام فأصبحوا يُغيّرون من كلامهم ويتكلمون معي بلغتي المكسرة تشجيعاً لي على النطق والكلام.

ولما كبرت أكثر وجدتهم كانوا قد جهزوا لي غرفة نوم قبل أن أدخل إلى حياتهم ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتجهيزها بكل أنواع الألعاب كي أتسلى بها في حال غيابهم عني وما أن بدأت في المشي حتى وجدتهم يمسكون بيدي ويسيرون بي بين الجدران مرة وفي الشوارع مرات كي يعلمونني المشي وأنا صغير في السن وما أن كبرت أكثر حتى أصبحت طلباتي عندهم كلها أوامر لا بل أصبحوا يأتون لي بأشياء لم أفكر بها ولم أطلبها منهم.

وبعد أن أصبحت شاباً يا ولدي حاولت أن أعتمد على نفسي في وطني فلم أجد فيه ما يحقق طموحاتي فتغربت إلى بلاد الله الواسعة وتحملت قساوة الغربة وشظف العيش فيها وهناك بعد أن كوّنت نفسي وأمّنت مستقبلي تزوجت ولم أبخل على زوجتي بشئ فأعطيتها إسمي ومالي وبيتي وعنواني ولم تكن تطلب شيئاً إلا وكنت قد أحضرته لها من الإبرة إلى السيارة وبعد أن أنجبت البنين والبنات لم أبخل على أحد من أولادي وبناتي بشئ فبعد أن علمتهم وأوصلتهم بر الأمان تزوج الأولاد وتزوجت البنات وخلفوا البنين والبنات وامتد عطائي إلى أحفادي أيضاً لا بل إلى كل من كان يحتاج من إخوتي وأخواتي وأقاربي وأصدقائي وحتى جيراني.

وعندما إقتربت من خريف العمر انقلبت الأمور رأساً على عقب فنسيت الابتسام لأنني لم أجد من كل هؤلاء من يبتسم لي أو يحاول أن يعيد لي الابتسام ونسيت الكلام بعد أن ابتعد عني كل من يدعي قرابتي فتيبس لساني في حلقي ولم أعد قادراً على ضبط مخارج الحروف حتى أنني بدأت أتلعثم في الكلام بين الحين والآخر ولم أجد أحداً منهم يُصحح لي كلامي أو يضبته وأصبحت أتعثر في مشيتي ولم أجد أحداً منهم يسندني أو يساعدني في مشيي وعندما أصبحت غير قادر على تناول طعامي وشرابي وارتداء ملابسي بعد أن خانتني يداي في مسك الأشياء لم أجد يا ولدي أحداً منهم يقف بجانبي أو يساعدني.

وابتعد عني كل من كانوا يتمنون مني ولو إبتسامة ولم يكتفوا بذلك بل فرضوا علي العزلة مما جعلني أعود إلى الماضي البعيد كي أعيشه بدلاً من الحاضر وكانوا بذلك قد أوقعوني في المحظور دون أن يدروا لأن من كنت قد عايشتهم في الماضي هم أموات في هذه الأيام فعشت بين الأموات أتذكر أكلهم وشربهم وكلامهم وقصصهم وحيلتهم مما جعلني أهرب من الواقع وأعيش في الماضي فاتهموني بالخرف وشددوا علي الخناق أكثر.

ومما زاد الطين بلة أن كل من هم حولي مقتدرون مادياً ولكي يغسلوا أيديهم من غلبتي قاموا أمام الناس رياءاً وأحضروا لي خادمة فلبينية لا أفهم عليها ما تقول ولا تفهم علي ما أطلبه منها وقالوا لها أن كل المطلوب منها أن ُتبقي على هذا الرجل حياً لا أكثر ولا أقل فأصبحت بعدها لا أقارن نفسي بالبشر بل أصبحت أتمنى أن أكون قطة كي يلاعبني الصغار والكبار على حد سواء.

لا بل أصبحت في بعض الأيام يا ولدي أحسد هذا الكلب (وأشار بيده إلى كلب مربوط بجانبه) عندما أسمع زوجة إبني وهي تطلب من زوجها أن ينفس عن هذا الكلب بعد يوم غائم وماطر وأصبحت أتمنى أن يعاملني كل من هم حولي مثل ما يعاملون هذا الكلب المحظوظ لهذا يا ولدي أصبحت أطلب الموت قبل قدومه وأنا حيّ أرزق ليس حبّاً بالموت نفسه بل حباً في الابتعاد عن كل من تراهم من أهل وأقارب وأصدقاء وحتى جيران يصولون ويجولون من حولي.

صاحبنا: دعني أكون صريحاً معك أكثر من اللزوم يا سيدي فأنا لا أصدق كل ما تقول لأني رأيتك من بعيد وأنا أسير باتجاهك كشيخ عرب (اللهم لا حسد) فأنت ما شاء الله تجلس على كرسي وأمامك طاولة مستديرة وفوقها إبريق من الماء البارد وبجانبه كأس من زجاج لتشرب منه كلما شعرت بالعطش وحافظة للقهوة كي تبقى ساخنة لتشرب منها وقتما تشاء (لا بل تسقي غيرك منها إن أحببت) وفوق ذلك كله ترعاك خادمة فلبينية جميلة وهذا كل ما يتمناه كل رجل مسن مثلك.
![]()