هكذا وجد نفسه يعيش مع أخيه الأكبر وزوجته (بدلاً من أن يعيش مع أمه وأبيه) في بيت صغير متواضع يتألف من غرفتين فقط يسكن هو في غرفة بينما يسكن أخوه وزوجته الغرفة الأخرى، وكان الثلاثة يزرعون أرضهم محاصيل شتوية في الشتاء ومحاصيل صيفية في الصيف كل سنة ومنها يعتاشون وفي نهاية كل موسم يدرسون القمح فيأخذون حاجتهم منه ويضعون الباقي في أكياس من الخيش في المخزن ليتم بيعه ثم يتقاسمون ثمنه بالتساوي فيما بينهم.

وفي إحدى السنوات كان عدد الأكياس فردياً فبعد عملية القسمة بقي كيس مُشترك بينهما فقال الأخ الأكبر لأخيه الأصغر: هو لك فأنت بحاجة إليه أكثر مني لأنك لم تكوّن نفسك بعد، فردّ عليه الأخ الأصغر قائلاً: لا بل هو لك فأنت مُتزوج وعليك التزامات ومسؤوليات أكثر مني وبعد أخذ وردّ ورفض وقبول انتهى هذا الكيس للأخ الأصغر وقد قبله على مضض لكنه لم يكن يعلم بأن هذا الكيس سيغيّر حالهم ويقلبها من حال إلى حال.

سمعت زوجة أخيه الحوار الدائر بينهما لكنها فضّلت الصمت على الكلام وبقيت كذلك إلى أن انفردت بزوجها ليلاً وبدأت تعترض له على هذه القسمة قائلة: أنسيت يا زوجي العزيز بأننا ثلاثة وبأنكم لستم اثنين كما تدّعون؟لقد كان يُفترض أن تقسموا عدد الأكياس على ثلاثة ليكون لي نصيب مما نزرع ونحصد لا سيّما أنني أتعب في الأرض مثل ما تتعبون بل أكثر زد على ذلك ما أتعبه معكم في الأعمال البيتية وأريد أن أذكرك بشئ تجهله أنت الآن فغداً يكبر أخاك الصغير ويتزوج وتبقى أنت كما أنت.

والعاقل يا زوجي العزيز من اتعظ بغيره فما عليك إلا أن تنظر إلى دار فلان عندما حرم أخوهم الكبير نفسه وقام بتعليم إخوانه الأصغر منه سناً وهم الآن جميعهم أغنى منه وأفضل حالاً فقال لها زوجها: يا بنت الحلال هذه ضريبة يدفعها كل كبير فالكبير كبير بمسؤولياته وليس بعمره فإذا تنصّل الأخ الأكبر من التزاماته سيضطر الأصغر منه أن يقوم بها وهو بحكم سنه غير مُهيأ لذلك عندها سيختل توازن الأسرة وينقلب حالها رأساً على عقب.

وإليكِ مثالاً من حياتكِ العمليّة فعندما تقومين بشراء طقمٍ من الطناجر ستجدينه كله موضوعاً في الطنجرة الكبيرة رغم أن لكل واحدة منهن استخداماتها ولن تجدي طنجرة تحسد أختها أو تحاول أن تلغي دورها فقالت له زوجته: أنا لا أريد أن أظلم أخاك الأصغر ولكنني أريد أن أنصفك من ظلم نفسك، فرد عليها زوجها: ظلم النفس للنفس ليس ظلماً إذا أتى عن طيب خاطر وعن حب وقناعة فقالت له زوجته بعد أن علا صوتها أكثر من اللازم وكأنها تريد أن تسمِع أخاه: إذا لم تعِد النظر في هذه القسمة ولم ينلني نصيب منها لن أكون لك زوجة بعد هذا اليوم.

سمع الأخ الأصغر أطراف الحوار الذي دار بينهما فعرض على زوجة أخيه أن يعطيها الكيس الزائد حلاً للمشكلة فرفضت الزوجة هذا العرض وقالت: وكأنني أعيش بينكم على الفَضَلة لو لم يكن هذا الكيس زائداً لما أعطيتني إياه إنما أريد نصيبي كاملاً (وكان الأخ الأكبر يستمع للحوار الدائر بينهما ويتمنى لهذا الحوار أن لا يطول) فقال الأخ الأصغر: عندي حل يُرضي جميع الأطراف، نبيع ما عندنا من قمح وأتزوج بثمنه وأرحل عنكم إلى أي مكان آخر وقالها بسرعة قبل أن تتجمع الدموع بعينه وتنسكب على وجهه وخرج من الغرفة مسرعاً دون أن ينتظر جواباً منهما.

فجأة نهضت أمه من مدفن الذكريات وبعد أن تأملته عن بعد تابعت سيرها وكأنها لا تعرفه فقد غيرته السنين بعد رحيلها المفاجئ فصاح عليها بأعلى صوته: أمــــاه أماه فأدارت وجهها وحدقت به فعرفته بصعوبة فقفز ليحضنها فلم يجد غير الهواء البارد لكنه سمع صوتها وهي تسأله عن أحواله فأجابها معاتباً: كانت يا أماه أقداري بيدك لو كنت موجودة أما اليوم فأقداري ليست بيدي بل هي بيد زوجة أخي وشتان بين من قدره بيد أمه وبين من قدره بِيَد غيرها من النساء.

قال الزوج لزوجته معاتباً بعد أن خرج أخوه من بيته مكسور الخاطر: أيرضيكِ هذا؟ أين سيذهب أخي الآن؟وهل هو في وضع يسمح له بالاستقلال؟ ماذا سأقول لأبي الذي أوصاني به خيراً عندما كان يحتضر؟ وماذا سأقول لأمي بعد أن تركت هذه الدنيا وهي قلقة عليه لصغر سنه؟ ماذا سيقول الناس عنا في المستقبل؟ أتريديني أن أكون مضرباً لأمثالهم فأجابته ببرود شديد: ومن هذه الزوجة التي سيحضرها أخوك لتشاركني في بيتي وفي أرضي وتقاسمني فيه؟.

سمع الزوج من زوجته هذا الكلام ولم يرد عليها ولا بكلمة واحدة بل أسرع يبحث عن أخيه الذي خرج من بيته حزيناً وقال في نفسه: أين سيذهب أخي في مثل هذا الوقت؟ كان من المفروض أن لا أسمح له بالخروج وهو في هذه الحالة فبحث عنه عند الجيران والأقارب فلم يجده وفي طريق عودته إلى البيت وجده يجلس وحيداً تحت شجرة التوت التي كان قد زرعها والده قبل وفاته بقليل وكانت شجرة صغيرة في تلك الأيام واليوم أصبحت تخفي من يجلس تحتها فتقدم منه وطيّب خاطره وقال له: انظر إلى ثمار هذه الشجرة فالثمرة الناضجة هي التي يحين قطفها وإذا لم تُقطف فستسقط على الأرض والله وحده هو الذي يعلم أين ستسقط.

وها أنت اليوم قد نضجت وعليك أن تبحث عن عروس لك وأنا سدّاد في كل شيء وذهبا معاً إلى البيت لكنه طلب من أخيه الأكبر أن ينفرد بنفسه في غرفته كي يقرر من هي هذه العروس التي سيتزوحها. وعندما انفرد بنفسه استعرض كل فتيات القرية فلم يجد أفضل من أخت زوجة أخيه لا لجمالها لكنها وحدها التي ستسمح لها زوجة أخيه بالبقاء في البيت وهي وحدها التي ستقيم علاقة حسنة معها وبالتالي يحافظ على أخيه أن يبقى أخاً ودونها ستكون الحياة على الأخوين صعبة.

ترك الأخ الأكبر أخاه الأصغر لينفرد بنفسه وعاد لزوجته وما أن دخل عليها الغرفة حتى قامت بقفل بابها وقالت له: هل وجدت أخاك؟ قال لها: نعم فقالت له: وماذا بعد؟ قال: اتفقنا أن يتزوج في أقرب وقت ممكن فقالتله: وجدتها يتزوج أخوك من أختي ومن غير ذلك لن يستقيم أمرنا فقاللها: أنا لا أجبر أخي على شيء لا يريده فهل عندك الجرأة على طرح هذا الموضوع معه؟ فقالت له بأدب شديد: أنا لا أدلّل على أختي بل عليك أن تدله أنت عليها.

وفي هذه اللحظات الحرجة دق الأخ الأصغر باب غرفة أخيه واستأذن للدخول ثم قال لهما: وجدت الحل الأمثل للوضع الذي نحن فيه. فقالت له زوجة أخيه: ما هو هذا الحل؟ قال: أتزوج أختك لتكون حلاً يرضي جميع الأطراف. حاولت زوجة الأخ أن تبدو مندهشة ووجهت كلامها لزوجها هذه المرة وقالت له: هل أنت موافق على زواج أختي من أخيك؟ قال الأخ الأكبر مُخاطباً الإثنين معاً وقد بدت على وجهه علامات السرور والبهجة والراحة: ما قاله أخي يبقى هو أحسن الحلول فهو الحلّ الذي يحفظ لي أخي وزوجتي وبيتي، وبنفس الوقت يجعل أخي سعيداً. قال الأخ الأصغر: على بركة الله، إذا أذن أخي نذهب غداً لخطبتها من أهلها. 

وما هي إلا بضعة أيام كانت قد خلت حتى كان أهلها قد وافقوا على هذا الزواج لا بل باركوه فتزوّج الأخ الأصغر من أختها الصغرى وساد الوئام والحب بينهم وعادوا عائلة واحدة ومرّت الأيام والسنون وأصبح لكل من الأخوين ولد وكل أخ يحب إبن أخيه مثل ولده إن لم يكن أكثر وكل أخت تحب ابن أختها وتفضله على ابنها في غالب الأيام فاندهش الناس من هذه العلاقة السائدة بين الأخوين وذاع صيتهم حتى وصل إلى القرى المجاورة وأصبحوا مضرباً للمثل في قريتهم.

وعندما سمعت زوجة الأخ الأكبر ما يقوله الناس عن العلاقة الحميمة التي تربط بين زوجها وأخيه عزّ عليها ذلك فهي تريد أن يمدح الناس الزوجتين وليس الزوجان وأرادت أن توضح للناس كافة الصورة الحقيقية للعلاقة التي تربط الأخوة بعضهم ببعض خاصة بعد وفاة الوالدين وتلقّن جميع من لا يعترف بقدرة المرأة على تقريب البعيد وتبعيد القريب متى شاءت درساً علهم يعونه وهذا الأمر لا يحتاج منها إلا قطرة واحدة من بحر دهائها العظيم.

حلّ العيد وزوجها خارج القرية فتولى أخوه الأصغر المهمة بدلاً عنه فجاء بخروف العيد وذبحه بعد أن تجمّع الأولاد حوله وأعطى كلاً من ابنه وابن أخيه بيضة من بيضات الخروف وهذا تقليد قديم يفعلونه تيمناً بالذكورة والتقطت زوجته الحادثة فأخذت البيضة من ابنها الذي احتج وبكى وضربته أكثر ليبكي أكثر حتى تعب من البكاء وقبل أن ينام وضعت حول عينيه لبن التين لتنتفخ عيناه وتغلق بعدها ولا يستطيع فتح جفونه في الضوء بعد ذلك.

قدم زوجها وعندما سألها عن إبنه أشارت له بيدها دون أن تتكلم فسألها مرة ثانية: اليوم يوم عيد فكيف ينام الولد؟ قالت له: لا أريد أن أتكلم في هذا الموضوع حفاظاً على مشاعرك لكنك أنت الذي طلبت مني ذلك، لقد ذبح أخوك الخروف في غيابك ولم ينتظر قدومك لتكون معنا ولم يكتف بذلك بل أعطى ابنه بيضتي الخروف ولم يُعط ابنك شيئاً فأخذ ابنك يبكي وابنه يلعب بالبيضتين معاً أمام نظر أخيك وزوجته ولم يُحركا ساكناً إلى أن أضناه التعب ونام.

فما كان منه إلا أن ذهب إلى ابنه مسرعاً وأيقظه من نومه فوجد عيناه منتفختين ومغلقتين فجنّ جنونه ومن شدة غضبه على أخيه لم يُفاتحه في الموضوع بل غيّر سكنه إلى بيت ليس ببعيد عن بيته القديم وحلف يميناً مُغلظاً أن لا يُكلم أخاه مدى الحياة مقابل فعلته السوداء تلك فاحتار الأخ الأصغر من تصرف أخيه الأكبر بعد رجوعه من السفر على غير عادته فهو لا يكلمه ولا يمازحه لا بل وجده مشغولاً في الرحيل إلى بيت آخر فحاول أن يكلمه لكنه لاذ بالصمت واستمر في الرحيل وعندما تأكدت زوجته أنه يحمل آخر قطعة من أثاث بيته ولن يعود ثانية إليه قالت له:لم يحصل أي شيء مما كنت قد حدثتك به عن ابنك لكنها كانت حيلة مني كي أثبت للناس كافة أن المرأة هي التي تُجمّع وهي التي تُفرّق بين الأخوة.

كل شيء عن المرأة