المكان: الكويت
الزمان: 2/8/1990 إلى 15/3/1991

كان الطعام والشراب في دولة الكويت، قبل الاجتياح العراقي لها، مُتنوعاً ومُتوفراً ورخيصاً، وفي مُتناول الجميع، لا فرق بين أمير وغفير، فالجميع يأكل ما يُريد، وقتما يريد، وهذه إيجابية تسجّل لدولة الكويت دون غيرها من البلدان المجاورة، فهي من الدول النادرة التي توفر نفس الفرصة للجميع، في الحصول على الطعام والشراب بكافة أنواعه، فكانوا يستوردون الخضار والفواكه من جميع أنحاء العالم، ويقومون بعرضها للناس كافة، في مكان واسع نظيف يسمى «شبرة الخضار»، وكانوا يراقبون الباعة والمستوردين، ويمنعوا الغش في البيع والشراء، فكنا نذهب إليها يوماً في الأسبوع للتسوق، مصطحبين معنا زوجاتنا وأولادنا من أجل المتعة والمشاهدة، والأكل أيضاً.

لكن ـ مع الأسف الشديد ـ لم يُقدّر الكثير الكثير، ممن سكنوا الكويت هذه النعمة التي كانوا يعيشون فيها ـ وأنا منهم ـ، فـبَـطروا وأسرفـوا، وألـقـوا بالأكل في حاويات الـقـمـامـة، حتى وصل الأمر فيهم، إلى أن أصبح الإنسان في دولة الكويت، يأكل ما لا يشتهي، لأن جميع صنوف الطعام متوفرة على مدار السنة، فأنا مثلاً كانت إحدى أمنياتي، أن أفتح ثلاجتي يوماً، ولا أجد فيها تفاحاً، أي كنت أتمنى غيابه عن وجهي كي أشتهيه، وأقبل على أكله، ولم أذكر يوماً، أنني مددت يدي إلى الثلاجة، وتناولت تفاحة كي آكلها، ولم يكتف التفاح بمطاردتي في البيت فقط، ولكنه أحضر معه الموز والبرتقال، ليطاردوني في المدرسة أيضاً، فكانوا يقدمون لنا نحن المدرسون والطلاب، وجبة صباحية لا نأكل منها شيئاً يُذكر، ونلقي بالباقي في حاويات الزبالة.

لكن عندما احتلت القوات العراقية دولة الكويت، قامت بفتح كل مخازن شركات الأطعمة فيها، ونهبت أو اشترت بثمن بخسٍ كل ما كان بداخلها، وأخذته معها إلى العراق الجائع، الخارج من معركة كانت شرسة وطويلة مع إيران دامت ثماني سنوات، كانت قد أهلكت الحرث والنسل، كما قامت القوات العراقية أيضاً بمنع الشركات الكويتية من الاستيراد، أو أن الشركات هي التي كانت قد امتنعت عن الاستيراد من تلقاء نفسها، نتيجة لما حصل، فانقلبت الآية، وأصبحنا في الكويت نعيش على ما يزيد عن حاجة الشعب العراقي.

ولم يكتفوا بأن أحضروا معهم بضاعتهم لنا في الكويت، بل أحضروا معها سلوك وعيوب النظام الاشتراكي العربي المزعوم، وطبقوه على سكان الكويت، فتحولت شبرة الخضار والفواكه من مكان للنزهة والتسوق، إلى مكرهة صحية، وأصبح لزاماً عليك إن دخلتها أن تلبس جزمة، أو ترفع بنطالك إلى ركبتك، كأنك تريد أن تقطع وادياً تجري فيه الأوساخ وبقايا الخضار والفواكه، وهي متعفنة بدل أن يجري فيه الماء.

في دولة الكويت قبل الاحتلال، كانوا يبيعون الخضار والفواكه على مبدأ (السحب مع إرجاع)، أي أنك تختار ما تشتري، وتعيد النظر في الاختيار، إلى أن تستقر على ما تريد شراءه كماً ونوعاً، أما عندما أصبحت الكويت تحمل اسم المحافظة رقم 19 من دولة العراق، فقد اعتُمد مبدأ (السحب بدون إرجاع)، أي ليس لك الخيار في ما تشتري، بل الخيار للبائع فيما يريد هو أن يبيعك، وشتان ما بين المبدأيْن في البيع والشراء، فإذا فكرت أن تشتري كيلو بندورة مثلاً، عليك أن تشتري وتدفع ثمن خمسة كيلوات، وتحملها معك إلى البيت، وهناك تقوم بفرزها، وتأخذ الصالح منها، وتلقي بالباقي في القمامة.

أما عن الغش في البيع وفي الشراء، فحدث ولا حرج، فقد اعتاد الناس على شراء البصل أو الخيار أو البطاطا مثلاً، في عبوات بلاستيكية شفافة مرئية، ليرى المشتري حجم ونوع الخيار أو البصل أو البطاطا، فكانوا يأتون بأكبر (ماسورة) يمكن إدخالها في هذا الكيس، ويضعونها في وسطه، ويملئونها بخيار أو بصل أو بطاطا لا تصلح للاستهلاك البشري، ويحيطونها بطبقة من الخيار الصغير الطري، أو من البصل الجيد، أو البطاطا الممتازة، ثم يقومون برفع هذه الماسورة، ويربطون الكيس من الأعلى، ويعرضونه للبيع، ليأتي المشتري فيراه خياراً صغيراً أو بصلاً جيداً أو بطاطا ممتازة، فيعجب به ويشتريه، ويحدّث نفسه أن هذا الخيار سيكفيه أسبوعاً، وإذا به ينتهي في وجبة واحدة.

أما عندما كنا نشتري عبوات الخضار والفواكه المستورة، أي التي لا يُرى ما بداخلها، فكانوا يضعون البضاعة الجيدة على السطح، ويملئون داخلها بالبضاعة الفاسدة والورق، فلا رقيب عليهم، ولا حسيب لهم على ما يفعلونه، بعد أن حولوا الكويت لتصبح محافظة من محافظاتهم، بينما كانت الكويت، قبل أن تصبح ولاية عراقية خالية من الغش، لأن من يغش فيها يعلم النتائج المترتبة عليه مسبقاً، وسيطبق عليه القانون الصارم فوراً، لكننا الآن نعيش بدون قوانين أو قل بقوانين عراقية، لا بل قل إن حاميها هم حراميها.

حتى هذا الوضع السيء تمنينا بقاؤه، لكنه لم يدم طويلاً، ففي 1/9/1990 فرضت السلطات العراقية نظام توزيع الأغذية الأساسية بالبطاقات، لأن الأزمة بدأت تشتد، ليصبح التركيز على المحافظة رقم 1، أي على بغداد على حساب المحافظة رقم 19، ولم يعد يصلنا شيءٌ، حتى أنني نسيت شكل البندورة، لهذا قمت بشراء تراب البتموس، ووضعته في صندوق خضار من البوستر، وزرعت فيه أشتالاً صغيرة من نبات البندورة، وبدأت أسقيها الماء مما نشرب، لأن الماء أصبح الآن شبه مفقود، لكنها أزهرت وأثمرت بضع حبات قليلة، لا يتجاوز حجم الواحدة منها حجم حبة الكرز.

أما إذا قدم شخص نعرفه من الأقارب أو الأصدقاء من عمان أو دمشق أو بيروت، ومعه بعض الخضار أو الفواكه، فكنا نذهب عنده لا لنأكل مما أحضره معه، بل لنتفرج على شكلها فقط، بعد أن نسينا شكل الخضار والفواكه، وقد يجود الخيّرون منهم علينا بما تيسر، وسيكون إن حصل ذلك وبالاً علينا وعلى أولادنا، فقد دخلت البيت ذات مرة فوجدت أولادي الثلاثة يتصارعون وكأنهم أعداء، وعندما اقتربت منهم أكثر وسألتهم عن السبب، وإذا بأحد الجيران كان قد تصدّق عليهم بتفاحة، وكل ولد منهم يطلبها لنفسه، فقسمتها بينهم بالتساوي وانتهى الإشكال.

وهنا لا بد لي أن أعترف لزوجتي بسعة الأفق وبُعد النظر، فقد طلبت مني يوماً من الأيام أن أشتري كيساً من البطاطا زنة 55 كيلو غرام استعداداً للحرب، لكنني رفضت طلبها هذا بحجة أن الحرب وإن حصلت ستكون حرباً خاطفة، فقد انتصرت إسرائيل على العرب مجتمعين خلال ستة أيام فقط، لكنها لم تقتنع بكلامي هذا، وأصرّت على موقفها، وكذلك أنا، فطلبتْ من جارٍ لنا يملك شاحنة صغيرة، أن يُحضر لها ذاك الكيس، وقد استجاب لطلبها، وبقيت البطاطا عندنا حتى آخر يوم لنا في الكويت، نستخدمها عند اللزوم، فلها استخدامات متعددة أولها أنها تنوب عن الخبز لو غاب.

وازداد الأمر سوءاً بعد أن قُطعت عنا الكهرباء، وبالتالي شحّت علينا المياه، فما كان أمامنا من خيار، إلا أن نفتح البئر المهجور والموجود في روضة السندباد المجاورة لبيتنا، ونخرج منه الماء بالدلو، ثم نضع هذا الدلو على غطاء ماتور السيارة، ونسير به سير السلحفاة إلى أن نصل به إلى البيت، ثم نعود ثانية وثالثة ورابعة، إلى أن نكتفي من هذا الماء الذي لا يصلح للشرب، ولكن كنا نستخدمه في حاجاتنا اليومية الأخرى، ولو طالت الحرب البرية أكثر لكان العناء أكثر.

وعندما دخلت قوات التحالف أرض الكويت في 26 فبراير 1990، وفي أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك، قام الكويتيون بتوزيع طروداً غذائية جاهزة ومنوّعة، لا نعلم ما بداخلها حتى نفتحها، وكنت أنا محظوظاً في ذلك اليوم، فقد كان بداخل طردي (دجاجة)، ويا لها من دجاجة، وعندما ذهبت إلى البيت، ورآها الأولاد، التفوا حولها يتغزلون بها، بعد أن غابت عن أعينهم شهوراً، ولم يكن أمامنا إلا أن نطبخها بالبطاطا المتوفرة عندنا، وكانت هذه الدجاجة أفضل ما أكل الأولاد في حياتهم، ومنذ ذلك اليوم ـ وحتى الآن وغداً ـ ونحن نحتفل بقدوم شهر رمضان المبارك سنوياً بطبخ الدجاج مع البطاطا في أول يوم من أيامه.

وفي مساء اليوم الثالث على تحرير الكويت، وإذ بسيارة جيب عسكرية تقف أمام بنايتنا، وينزل منها جنديٌ مسلحٌ بكامل سلاح الحرب، ويرتدي زيّ قوات التحالف، وبقي السائق ومرافق له في السيارة، فتوجسنا خيفة منهم في أول الأمر، لكننا استبشرنا خيراً عندما عرفناه، إنه جار لنا في البناية مصري الجنسية، إسمه برنس حسن إبراهيم (أبو طارق)، كان يعمل مدنياً في الجيش الكويتي، وكان مسالماً طيباً أصيلاً، يحب الناس جميعاً، والناس تحبه، كان قد سافر إلى بلده مصر، بعد أن ودّعنا وهو يبكي على ما حصل من احتلال للكويت، ووضع مفتاح شقته عندنا كأمانة، كي نتصرف في غيابه لو حصل لها مكروه لا سمح الله.

وكان عند جارنا الطيب هذا، سلحفاة يقتنيها في بيته، وكان يعتقد بأنها تجلب الحظ له ولبيته ولأولاده، فأعطاها لأولادي هدية منه، وقال لهم: إنها تأكل بقايا الأكل الآدمي من خضار وفواكه، فوضعها الأولاد في بانيو الحمام، وعاشت معهم فترة من الزمن، وظلت كذلك، حتى لم يجدوا شيئاً يُطعموها، بعد أن غابت الخضار والفواكه عن أعينهم، فماتت دون أن تحسن من حظهم شيئاً.
