
في أحد أيام الصيف كنت وحيداً في البيت فوجدتها فرصة مناسبة للجلوس في الشرفة المطلة في بيتي، وممارسة هوايتي المفضّلة وهي مراقبة كل شيء تقع عليه عيناي أو تسمعه أذناي. فجأة رأيت منظراً أوقفني بعد أن كنت جالساً، أوقفني كي أدقق النظر فيما أرى، فلقد رأيت طفلاً لم يتجاوز العاشرة من عمره يحمل فوق كتفيه حملاً ثقيلاً حتى أنني رأيت وسمعت طقطقة عظامه الطرية وهي تتقوس وتنحني أمام هذا الحمل الثقيل أمعنت النظر بما يحمله هذا الطفل على كتفيه فوجدته يحمل أخاه الأكبر المُقعد ويسير به إلى المكان الذي يلتقي فيه مع أصدقائه.

وهذا المكان هو ساحة شبه مستوية صنع منها هو وزملاؤه ملعباً لهم يلتقون فيه يومياً كي يمارسوا هوايتهم المفضلة لديهم وهي لعبة كرة القدم. وصل هذا الطفل المسكين إلى الملعب متأخراً عن موعد بدء المباراة، فجلس القرفصاء ثم سجد على الأرض فزحف أخوه بمؤخرته من على كتفيه ماراً من فوق رأسه حتى وصل إلى الأرض بعدها نهض الطفل مسرعاً والتحق بفريقه، بعد أن عاتبه بعضهم على التأخير. راقبت الولد المُقْعَد فوجدته يُقسم إلى قسمين: القسم العلوي مُضاعف الحجم، أما القسم السفلي فهو ضامر. وعندما وجد نفسه وحيداً بدأ يزحف إلى أن وصل إلى الملعب، وتمركز في مكان حارس المرمى وطالبهم بأن يكملوا لعبتهم بعد أن كانوا قد أوقفوها بمجرد دخوله الملعب، لكنهم رفضوا نداءه هذا وأوقفوا اللعب خوفاً عليه من إحدى الركلات التي قد تنهي حياته، وطالبوا أخيه بإبعاده فوراً من الملعب وإلا فقد مكانه في اللعبة.

هجم عليه أخوه هجوم الغاضب وانبطح أمامه أرضاً وطلب منه أن يتسلق على رأسه أولاً، ثم يزحف قليلا ليتمركز فوق كتفيه ويثبت يديه برأسه، وعندما شعر الأخ الأصغر بأن رأسه أصبح مضغوطاً عليه بيدين قويتين كالكماشة علم أن أخاه أصبح جاهزاً فنهض وسار به إلى المكان الذي أجلسه فيه أول مرة وهدّده بقوله: إذا حضرت مرة ثانية إلى الملعب سأعيدك إلى البيت وعاد ثانية يلعب مع أصحابه وما أن انتهت لعبتهم حتى بدأ كل واحد منهم يتجه لبيته خفيفاً سريعاً إلا صاحبنا فعليه أن يحمل أخاه ليعيده إلى البيت، من أجل هذا سجد وركع وانبطح على الأرض كعادته كي يحمله، لكنه هذه المرة نام على الأرض وتمنى أن يتأخر أخاه في الصعود على كتفيه كي يأخذ قسطاً ولو صغيراً من الراحة، لكن أخاه لم يعطه الفرصة وزحف فوق رأسه واستقر على كتفيه وأمسك برأسه بقوة أكبر هذه المرة، لأن طريقهم ستكون صعوداً وليس هبوطاً كما بدأت فبيتهم يقع على سفح الجبل المقابل.

لم أتمالك نفسي ونزلت من مكاني وسرت بعكس الاتجاه الذي يسيرون به كي ألتقي بهما، وعندما التقيتهما بادرتهما بالسلام فردّوا الاثنان معاً وسألتهم: ما قصتكم أيها الأبطال؟ أراد الأخ الأصغر أن يُنزل أخاه من على كتفيه كي يُحدثني فقد تخيل أن لهاثه وحشرجة صدره صادرة عن تأثير الحمل الذي ينوء به، وظن أن صوته لن يصل إلى مسمعي فقلت له: لا تنزله من على ظهرك فأنا أسمعك جيداً لا بل سأرافقكم كي أتعرف على مسكنكم.

قال: أنا أرى يا سيدي أن الناس في هذه الدنيا يشبهون تماماً ركاب الباص، فمن هؤلاء من يصعد إلى الباص فيجد مقعداً خالياً فيجلس عليه إلى نهاية الرحلة، أي أن رحلته ستكون مريحة في بدايتها ونهايتها، ومنهم من يجد كرسياً خالياً فيجلس عليه لكنه أثناء هذه الرحلة يهب كرسيه لعجوز ويكمل رحلته واقفاً، وبهذا تكون رحلته مريحة في بدايتها فقط، ومنهم من لم يجد كرسياً خالياً فيضطر أن يبقى واقفاً إلى أن ينزل أحد الركاب فيجلس مكانه، وبهذا يكون قد استراح في النهاية، ومنهم من لم يجد كرسياً خالياً ليجلس عليه فيبدأ رحلته واقفاً وينهيها واقفاً، فيكون بذلك لم يذق طعم الراحة لا في البداية ولا في النهاية.

سرّني هذا الفهم للحياة من طفل لم يجرّبها بعد، فسألته على الفور: من أي نوع تُصنّف نفسك؟ فقال: أنا من النوع الأخير طبعاً، فأنا خُلقت في هذه الدنيا كبيراً رغم أنني الأصغر. سألته: وكيف يكون ذلك يا بني؟ فأجابني على الفور: إن أطفال العالم كلهم أحرار فيما يأكلون ويلبسون ويلعبون إلا أنا، فإذا رغبت في الأكل قالوا لي: أطعم أخاك معك، وإذا أردت أن ألبس طلبوا مني أن أُلبس أخي، وإذا أردت أن ألعب قالوا لي: لاعب أخاك معك، فسألته عن هؤلاء الذين يطلبون منه كل ذلك؟ فقال: أمي وأبي. وقبل أن تسألني عن دورهم تجاه أخي هذا أقول لك ما يقوله والدي لأمي: أنت التي خلفت هذا الولد وعليك أن تتحملي وحدك النتائج فترد عليه أمي في الحال: لا بل أنت من زرعت وعليك أن تحصد ما زرعت فالأرض لا تُسأل عن ما أنبتت.
