
الرجل المسن:أرجو أن تعلم يا ولدي (إن كنت لا تعلم) أنه في كل مجتمعاتنا العربية من المحيط إلى الخليج يقوم الوالدان بتكريس حياتهما كلها لتعليم أبنائهم وتأمين احتياجاتهم الصغيرة منها قبل الكبيرة بما في ذلك أعبائهم المادية حتى بعد أن يتزوجوا وينجبوا البنين والبنات وينسى الوالدان تأمين نفسيهما أو تأمين مستقبليهما معتمدين في ذلك على ما سيقدمه لهما أولادههما عندما يكبروا ويعتمدوا على أنفسهم في تحصيل أرزاقهم.

ومن الآباء من يبالغ أكثر من غيره من الآباء عندما يأمل أن يحقق له أولاده أهدافاً له كان قد عجز عن تحقيقها في فترة عطائه أي في شبابه وما أن تدور عجلة الزمن حتى يكبر الأولاد ويشيخ الوالد عندها سوف يكتشف بسهولة أن هذا العطاء المتفاني والإسراف الزائد من قبله في تدليل أبنائه لا يقابله اهتماماً مماثلاً وموازياً من قبل أولاده له قبل مرحلة الإستقلالية والإعتماد على النفس.

أما بعد أن يستقل هؤلاء الأولاد عن والدهم ويعتمدون على أنفسهم في تحصيل أرزاقهم ومتطلباتهم المادية يتزوجون في الحال وينشغلون في زوجاتهم وأولادهم وأهالي زوجاتهم وتقل إهتماماتهم بالآخرين ويكون أول المتضررين من هذا التغيير هو الوالد والوالدة فيقل إهتمام أولادهم المتزوجين بوالديهم ويقوم هؤلاء الأولاد باختصار كل متطلبات والديهم في هذه الحياة بالعطاء المادي فقط (هذا إن حصل) وينسوا العطاء المعنوي والنفسي.

وينسى هؤلاء الأولاد أو يتناسون المتطلبات النفسية والمعنوية الأخرى التي كان الوالدان ينتظرانها منهم على أحر من الجمر كنوع من رد الجميل لهما بعد أن أعطوهم كل ما كانوا يستطيعون ومن الأولاد من يقل إهتمامهم بوالديهم وقد يتلاشى عند البعض منهم والبعض الآخر قد يغسل يديه ويخرج من حياة والديه بحجة الضغوط المادية التي كانت قد وضعته فيها زوجته ومنهم من يرمي لهما مبلغاً من المال يفرضه على نفسه في نهاية كل شهر وكفى الله المؤمنين شر القتال.

صاحبنا:في المدرسة يا سيدي كانوا يرددون على مسامعنا كلمات وجمل كثيرة دون أن يفهمونا معانيها وما أن كبرنا أكثر حتى لاحقونا بها في المساجد قبل وبعد كل صلاة وكان من ضمن هذه الكلمات بر الوالدين حيث كان لها الحظ الأوفر منها فحفظناها عن ظهر قلب وأصبحنا نرددها على مسامع الآخرين دون أن نفهم معناها حتى أن زوجاتنا نسين قاعدة ذهبية تقول (من لا خير فيه لوالديه لا خير فيه لزوجته) فهل لك يا سيدي أن تفهمني ماذا تعنون أنتم كآباء بهذه الكلمات البسيطة (بر الوالدين) عندما تقومون بترديدها على مسامع أبنائكم؟فأنا أقولها بصراحة أكثر أنني كنت أسمع ببر الوالدين دون أن أفهم معناه حتى أنني أصبحت لا أفهم ماذا يريد الوالدان من أبنائهم؟.

الرجل المسن:أحسن ما فيك يا ولدي هي الصراحة التي تتمتع بها وقولك لا أعرف فالكثير من الناس في هذه الأيام لا يعرفون لكنهم يُظهروا أنفسهم للناس بأنهم عرّافون فاعلم يا ولدي أن بر الوالدين ليس مجرد قبلة تطبعها على رأس أمك أو أبيك أو على أيديهما أو حتى على قدميهما أمام الناس وتظن في قرارة نفسك أن هذه القبلة ستدخلك الجنة فالبر يا ولدي أكبر من ذلك بكثير وله أوجه كثيرة متعددة وهو يختلف من والد إلى آخر فعليك أن تكتشف بنفسك ما يرضي والديك وما يفكرا به ثم تنفذه فوراً دون أن تنتظر منهما أن يطلبها منك.

وعليك كذلك يا ولدي أن تكتشف ما يسعد أمك وأباك وتسارع إلى فعله فوراً دون تكليف من أي منهما وعليك يا ولدي أن تدرك الأشياء التي تزعجهما أو الأشياء التي تؤلمهما وتجتهد كي لا يرونه منك أبداً والأهم من ذلك كله أن تحادثهم وتمازحهم وتدخل في تفاصيل حياتهم اليومية لتعلم منهما بطريق مباشر أو غير مباشر ما يشتهيان من أشياء في حياتهما المتبقية فهم لن يطلبوا منك (رأس غليص) بل كل طلباتهم ستكون بسيطة في نظرك وعليك أن تلبيها في الحال ولو كان طلبهما منك كوباً من الشاي.

وعليك يا ولدي أن تحرص على راحة والديك ولو كان على حساب راحتك الشخصية فمثلاً لو كان سهرك في الخارج يؤرقهما فنومك مبكراً يكون من أنواع البر بهما ولا تنس كذلك بين الحين والآخر أن تخطط لعمرة أو زيارة للحرم المكي لا يدريان عنها الا وهما في الفندق الأنيق الذي يليق بهما ولا تنس أن ترفه عنهما بين سنة وأخرى وهما في مثل هذا السن الذي لم يعد فيه بالنسبة لهما الكثير وذلك بأن تسافر معهما إلى أماكن لم يذهبوا لها مما يجلب لهما السعادة والفرح.

وعليك يا ولدي أن تفيض على والديك من مالك الخاص ولو كانا يملكان الملايين دون أن تفكر كم كنت قد دفعت عنهم؟أو كم صرفا؟ وهل هما بحاجة أم لا؟فكل ما أنت فيه الآن ما جاء الا بسهرهما وتعبهما وقلقهما في الليالي التي أمضياها في رعايتك وعليك أيضاً يا ولدي أن أن تبحث عن راحة والديك فلا تسمح لهما ببذل جهد لأجلك أو لغيرك فيكفي ما بذلاه من جهد وتعب من أجلك منذ ولادتك الى ان بلغت هذا المبلغ من العمر الذي أنت به الآن ولا تنس أن ترسم البسمة والضحكة على شفاههم حتى ولو غدوتَ في نظر نفسك مهرجاً.

صاحبنا:الآن يا سيدي أستطيع أن أدعي بملء فمي أنني فهمت معنى بر الوالدين وما فهمته منك أكثر أن هذه الكلمة واسعة المعنى مطاطة تختلف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر ومن والد إلى آخر وفهمت كذلك أنه يجب على الأولاد أن لا يضعوا كل الآباء أو كل الأمهات في سلة واحدة فلكل والد ما يرضيه وعلى كل ولد من الأولاد أن يبحث عن الطريقة التي يراها مناسبة ليتعامل بها مع والده أو والدته لكن قل يا سيدي هل عندك طريقة معينة تستطيع بها كوالد أن تقييم أولادك لتعرف منهم الولد البار من الولد العاق؟.

الرجل المسن: الأولاد يا ولدي سيختلفون حتماً عن بعضهم البعض في الطريقة التي يعاملون بها آباءهم وفي الأسلوب الذي يعاملون به أمهاتهم فلكل منهم طريقته وأسلوبه في التعامل مع والديه فكل ولد منهم يقيم حسب طريقته وأسلوبه في التعامل معهم فمن الأولاد من لا يفعل ما يأمر به الوالدان فهذا ولد عاقّ ومنهم من يفعل ما يؤمر به وهو كاره فمثل هذا الولد لا يؤجر على ما قام به من الله ومنهم من يفعل ما يطلب منه ويتبعه بالمنّ والأذى والتأفّف ورفع الصوت فهذا الولد يؤثم على ما قام به ومنهم من يفعل ما يطلب منه بنفس راضية فهذا الولد يؤجر على ما كان قد فعله معهم ومنهم من يفعل ما يريده والده أو أمه قبل أن يطلب منه فهذا هو الولد البارُّ الموفق.

صاحبنا: حديثك هذا يا سيدي ممتع وجميل ومفيد للغاية وخاصة لمن يقرأه من جيل هذه الأيام لكنني شخصياً كنت قد وجدت فيه ما كان قد حيرني وما زال يحيرني لكنني لم أسمح لنفسي بمقاطعتك للسؤال والاستفسار عنه.
الرجل المسن:أشكرك يا ولدي على تواضعك وعلى حسن خلقك معي فأنت من الناس القلائل الذين رأيتهم في حياتي يجيدون فن الاستماع ويستمعون لغيرهم أكثر مما يتكلمون فمعظم الناس الذين كنت قد قابلتهم كانوا يحبون أن يتكلموا كثيراً وعلى الناس أن تستمع لهم وليكن معلوماً لديك يا ولدي أن من لا يجيد فن الاستماع لا يجيد فن الكلام وأن من يتكلم كثيراً إما أنه يعلم كثيراً أو يكذب كثيراً لكن قل لي بالله عليك يا ولدي كيف نمى وترعرع عندك حب وفن الاستماع هذا؟!.

صاحبنا:من يجيد فن الاستماع يا سيدي يشكر الله دون أن يدري فالله كان قد خلقنا على هذه الأرض في أحسن تقويم فخلق لنا أذن يسرى لنسمع فيها ما يقوله أهل اليسار وأذن يمنى لنسمع فيها ما يقوله أهل اليمين ولسان واحد لنتكلم به مع الجميع لهذا يجب على الإنسان يا سيدي أن يسمع أكثر مما يتكلم.
الرجل المسن:أعترف لك يا ولدي بأنك أضفت إلى فهمي فهماً آخر كنت أجهله وهذا ما يجب أن يفهمه الناس عن الحوار فالمعرفة ليست حكراً على جيل معين دون الآخر وعلى الأجيال المتعاقبة أن تتحاور فيما بينها ولا يستبعد أحدهما الآخر لكنني يا ولدي أخاف أن يتشعب الحديث بيننا وتنسى أن تسأل عن ما تريد فكلي آذان صاغية.
