وصلت الكويت ثانية لكن هذه المرة ليست كسابقتها في المرة الأولى فقد تبين لي أن ذكرى المكان والناس بداخله لها وقع في النفس أقوى بكثير من ذكرى المكان وحده!صحيح أن حلمي تحقق للمرة الثانية لكنني لم أجد هنا في الكويت من أستطيع أن أتكلم معه في غير العمل!لكنني هذه المرة قررت أن أسير وحدي مشياً على الأقدام في شوارعها كي أتذكر الماضي بحلوه ومره فسرت من الفندق الذي كنت قد نزلت به في المسيلة إلى شارع عمان الذي كنا نسكن فيه فرأيت كل شيءٍ قد تغيّر فقد أحاطت ببنايتنا الأبراج العالية من كل جانب وأظهرت بنايتنا وكأنها كهف قديم وتساءلت مع نفسي:كيف كنت أعيش هنا؟وهل هذا المكان يستحق مني كل هذه الكتابة؟.
في الكويت عندما كانت تسمى نفسها (بلاد العرب) وُلدتُ!فكانت الكويت هي مسقط رأسي!ومكان ولادتي!وعليه فقد إستنشقتُ غبارها وطوزها!ولسعني حرّها!ولفحني بردها!وعصرتني رطوبتها!ومشيتُ على رملها وفي شوارعها!وتسلقت أبراجها!وسبحتُ في خليجها!وأكلت من سمكها!ولعبتُ في حدائقها!وتنزهت في واجهتها البحرية!وخيّمتُ في برّها!وتجوّلتُ في أسواقها!وتعلمتُ التسامح في مدارسها!وتسمعت إلى إذاعاتها!وشاهدت تلفازها!ولعبتُ في شوارعها وحاراتها!وصليت في مساجدها!وتعرفت على العرب والعروبة تحت سمائها!إثنتا عشر سنة بالتمام والكمال!.
السنة الثالثة عشر من عمري
وبقيت على هذا الحال!إلى أن جاءت السنة الثالثة عشر من عمري!لكن هذه السنة لم تكن كغيرها من السنوات السابقة!بل جاءت ومعها حرب (عاصفة الصحراء) التي رأيت فيها المغول والتتار بأم عيني!وهم يحطمون أحلامنا العربية!فاستبدلت هذه الحرب أمني خوفاً!وحلو أيامي علقماً!وأيام لعبي بأيام شكّ وحذر وخوف من الآخر!وتجوالي في أسواقها بحبس منفرد في بيتي!فكنت في هذه السنة كمن يسقط من فضاء شديد الإنارة إلى هاوية أشد ظلاماً!لهذا فلم أستطع أن أرى الأشياء على حقيقتها بوضوح!.
أنستني هذه السنة ما كان قبلها من سنوات!
لقد أنستني هذه السنة ما كان قبلها من سنوات لعب ولهو!ولم تكتف بذلك بل أخرجتني من طفولتي البريئة قبل الأوان!وجعلتني أراجع كل القيم والمفاهيم المُعلبة التي كانوا قد زرعوها في عقلي الصغير قبل هذه السنة!فتأكد لي من خلالها أننا أمة لا تتطابق أفعالها مع أقوالها!وبأننا أمة نضمر في باطننا غير ما نقوله بألسنتنا!وبأننا أمة نتقن فن اللعب والتلاعب بالكلمات!كي نقلب الحق باطلاً والباطل حق عندما نريد وفي أي وقت نريد!وبأننا أمة نتقن فن الدوران حول الهدف وبأي زاوية نريد!.
جاء دوري كطفل عربي فلسطيني لا ناقة لي ولا جمل لأروي لكم كيف تتكون النهايات قبل أن تدوّن!؟
والآن وبعد أن هدأت النفوس! ولعب من لعب!وقال من قال! وكتب من كتب!وبان الحق من الباطل!وتكلم السّاسة والقادة عن حرب الخليج كل فيما يخصّه ويهمّه!ونشرت الصحف والمجلات ومحطات التلفزة والإذاعات التحليلات والمقالات التي كانت تريدها أن تصل للقارئ بغثها وسمينها!جاء دوري كطفل عربي فلسطيني (لا ناقة لي ولا جمل) لأروي لكم كيف تتكون النهايات قبل أن تدوّن!؟.
الربيع العربي الذي أسست له حرب الخليج
أكتب لكم كي لا تشفقوا عليّ!فالشفقة تكون على من لم يعرف الحزن إلا في وجوه الآخرين أو في عيونهم أو في دموعهم!ولكن لأخبركم كيف حطمت السياسة العربية أحلام الطفولة البريئة؟وكيف سرقتها منهم وهم نيام؟أكتب لكم كي أعلمكم شيئاً عن خلفيات قادتكم التي أسست لها حرب الخليج!فلا تستغربوا لما حصل لكم بالأمس ويحصل معكم اليوم وسيحصل لكم غداً في بلدانكم العربية!فالذي كانوا قد زرعوه في عقول أطفالهم في الماضي أزهر وحان قطافه اليوم!وهم اليوم يحصدون ما كانوا قد زرعوا!.