مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
اليوم الأول من أيام إحتلال الكويت

عودني والدي أطال الله في عمره أن يفاجئني في يوم مولدي من كل عام بهدية كان يختارها لي إلا في هذه السنة فقد اشترطتُ عليه أن أختار هديتي بنفسي لتكون درّاجة فأنا من مواليد 26/8/1977 ويزداد انتظاري لهذا اليوم أكثر كلما هلّ هلال شهر أغسطس في كل عام فأبدأ أعدّ الأيام المُتبقية للوصول إلى هذا اليوم الموعود ها هو أولّ يوم من أيام أغسطس يمضي هكذا كنت قد حدثتُ نفسي قبل أن أنام وقلتُ بصوت لا يسمعه أحد غيري:غاب نهار آخر لكنّ ليل هذا اليوم أبى واستكبر أن يغيب كي أعدّ يومه كسائر الأيام.

في تمام الساعة الثانية من صباح يوم الخميس الموافق 8/2/1990 استيقظتُ من نومي على غير العادة فوجدت أمّي تردّ على مُكالمة هاتفية من أخيها الموجود في أمريكا آنذاك فساورني الشك من هذه المكالمة فاقتربت من أمي أكثر كي أسمع ما يمكنني سماعه وما أن إقتربت أكثر سمعت خالي وهو يصرخ على أمّي من خلال جهاز الهاتف ويقول لها:كيف تنامون وآلاف الجنود العراقيون قد دخلوا أرض الكويت واحتلوها وأنتم نيام؟استيقظوا من نومكم في الحال كي تستعدّوا للقادم من الأيام فالله وحده هو الذي يعلم ما تخبئه لكم هذه الأيام في طياتها.

بعد سماعي لهذه المكالمة الغريبة نهضتُ من فراشي مذعوراً والتحقتُ على الفور بحضن أمّي فرأيتها تبكي لكن بصمت فزاد بكائها من خوفي أكثر أما لماذا زاد خوفي؟لأنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها دموع أمّي فقد كنت أسمع والدي وهو يقول لها مراراً وتكراراً:إن دموع المرأة أشد عورة من شعرها فشعرٌها يجوز أن يراه المحارم أما دموعها فيجب أن لا يراها أحد سواها ولكنها بكت هذه المرة ولم تسمع كلام والدي فقلت في نفسي:ربما لأنه كان نائماً أو أن الموقف أكبر من تنظير والدي عن المرأة.

عندما رأتني والدتي خائفاً أرتجف من شدة الخوف احتضنتني وهي تجفف من دموعها وأيقظتْ والدي في الحال وأخبرته بما قال لها أخوها فلم يُحرّك والدي ساكناً بل طلب من والدتي أن تُحضّر له فنجاناً من القهوة وما أن أحضرته له وبدأ في احتسائه وهو يُدخن سيجارته ويُفكر بما سمع لكن بصمت مُملّ وكانت هذه هي أوّل مرّة أشاهد والدي فيها يُدخن سيجارته قبل أن يتناول طعام فطوره فمن عادته أن لا يدخن قبل أن يأكل.

ومن خلال منظر أبي وأمي اكتشفت أن الجو قد تلبَد بالغيوم وإذا لم تنقشع هذه الغيوم في الوقت المناسب فسوف لن أحصل على الدراجة الموعودة في يوم مولدي فالغيمة الأولى كانت عندما لم يذهب والدي إلى عمله كعادته في كل صباح بل انشغل في الرّد على الاتصالات التلفونية القادمة من الأهل والأحباب والأصدقاء والأقارب من داخل الكويت ومن خارجها والجميع كانوا يُطالبونه لا بل يلحون عليه بمغادرة الكويت فوراً.

فرحت عندما سمعت أهل والدي وأقاربه وهم يطالبونه بمغادرة الكويت والسفر فوراً إلى عمان ومن ثم إلى فلسطين لأنني لم أرَ جدّي هذا العام ولم أركب عرَبَته ولم أسر بجانبه في شوارع مدينة سلفيت ولم أرافقه إلى مدينة نابلس ليطعمني طبق الحمص باللحمة ويتبعه بصحن من الكنافة النابلسية الشهيرة ولم أذهب معه للصلاة في المسجد الأقصى في القدس الشريف وبعد الصلاة يشتري لي كعكة من كعك القدس الشهير وفي طريق عودتنا كنا نذهب لزيارة خالتي في مدينة رام الله ذات الجو المُنعش صيفاً.

لكن أهلي لم يهتموا بما كنت أفكر به بل أصبحت اهتماماتهم تنصب على أشياء أكبر من الذي يشغل تفكيري فمنذ هذه اللحظة بدأت أشعر أنني انفصلت عن الأهل بعد أن كنت جلّ اهتمامهم فأخذوا يتابعون الأخبار المحلية والعالمية ولم يكتفوا بأخبار التلفاز وإنما أخذوا يتابعونها أيضاً عن طريق جهاز الراديو وهذه هي أول مرة أراهم فيها يستخدمون فيها هذا الجهازبعد أن ألغى التلفاز دوره في حياتنا.

وما هي إلا لحظات حتى بدأ الجيران يتوافدون إلى بيتنا زرافات ووحدانا ومن مختلف الجنسيات العربية وأخذوا يتناقشون بما حدث وانقسموا فيما بينهم بين مُؤيد ومُعارض ولوحدي استنتجتُ أن الذي حصل في الكويت يهمّ الجميع لكنني لم أستوعبه في ذلك الوقت لأن كل ما أعرفه أنني أريد أن أشاهد الرسوم المتحركة لكنهم لم ولن يسمحوا لي بذلك فأرغمت نفسي على مشاهدة ما يُشاهدون وما هي إلا دقائق حتى ظهر مُذيع كويتي في جهاز التلفاز يصرخ ويقول للناس كافة:أنقذوا الكويت يا عرب وما هي إلا لحظات حتى غاب هذا المذيع وانقطع الإرسال.

سألت نفسي لأنني لم ولن أجد من هو مستعد ليجيبني على أسئلتي لو سألته:ماذا جرى لكويتنا الحبيبة؟هل إبتلعها البحر؟أم هي التي رمت بنفسها داخل فم أسد مُفترس جائع؟فأنا من مواليد الكويت وأحبها تماماً مثل ما أحب بلدي فلسطين لكن ما يُميز فلسطين عن الكويت هو وجود الأهل والأقارب والأصدقاء والأحباب هناك.

مللت الكلام وطلبت من والدي أن يخرجنا من البيت لنرى على أرض الواقع ماذا جرى ويجري على أرض الكويت؟فردّ عليّ قائلاً:احذر يا بُنيّ فترة تغيير الشفت فإنها لحظات خطيرة لكنني سأغامر هذه المرة من أجلك فقط بشرط أن نبقى جميعاً داخل السيارة ولا ننزل منها ولم أفهم شيئاً عن موضوع الشفت هذا إلا أنني سعدت بموافقته فخرجنا نتجول في يوم الخميس الأسود لكن هذه المرة للسير في الطرقات والشوارع لا للعب في الحدائق والملاعب.

وعندما رأيت الجنود ينتشرون في جميع الأماكن والشوارع تذكرت على الفور جيش اليهود في فلسطين المحتلة وبعد أن قارنت بينهما وجدت أن أفراد الجيش العراقي أضخم منهم جسماً ولهم شوارب سود ويتكلمون اللغة العربية مما جعلني أفهم عليهم ما يقولون في الغالب بعكس جيش اليهود فكنت لا أفهم من كلامهم حرفاً واحداً لكنني لم أكن أفهم كل كلماتهم على الرغم أنهم عرب مثلنا فمثلا هناك بعض الكلمات مثل سيطرة وقُبَل والله وعلي واياك والله يساعدك عيني وهذه الجملة الأخيرة نقولها نحن في فلسطين لمن خفّ عقله ولكن بعد الذي حصل خفّت عقول الناس جميعاً فقد أصبحت تلائم وتناسب الجميع فلم يستغرب الناس لسماعها.

وكان هذا المشوار الوحيد الذي قمت به بمرافقة والدي في شوارع وحارات الكويت بعد الاحتلال قد ولد عندي إشكالية كبيرة في التفكير فقد كنت أظن أن الاحتلال يكون بين شعبين مختلفين في اللغة والدين والثقافة والعادات والتقاليد وبعدما رأيت ما رأيت اكتشفت عدم صحة هذه المقولة وعليه فلا بد من مراجعة جميع القيم والمفاهيم السابقة التي كانوا قد لقنونا إياها ونحن صغاراً في السن لا ندري ما كان يقال لنا ولا بد من إعادة النظر في كل ما كنا نسمعه منهم وما أن عدنا إلى البيت حتى دخلت في سبات عميق لأنني لم أنم في الليلة السابقة.
مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
القادم من الأيام

في الصباح الباكر صحوت على أبي وأمي وهما يتحاوران لكن حوارهما هذه المرة يختلف عن ما سبقه من حوارات سابقة فكنت أسمعهما يتحاوران عن المستقبل وعن تعليم الأبناء وعن تحقيق الأمنيات الصغيرة والكبيرة لكنهما اليوم يتحاوران عن الخبز والحليب والرز والسكر والسمن ولم أسمع بمثل هذه الكلمات سابقاً فقد كانت الحياة سهلة والحاجات كلها متوفرة والذي لفت إنتباهي أكثر من غيره هو أنهم لم يتكلموا عني ولا عن شراء ألعابي التي عودوني عليها في السنين السابقة فقلت في نفسي:لقد نسيني أهلي وأصبحت خارج إهتماماتهم.

تطور الأمر أكثر إلى الأسوأ وأصبح الوضع يميل إلى الصعوبة أكثر وأكثر حتى أنني أصبحتُ لا أرى أهلي ولا أجتمع بهم في ساعات النهار لأنهم أصبحوا يقضون يومهم مصطفين في الطوابير الطويلة لشراء الخبز من شركة المخابز الكويتية بعد أن استولى على إدارتها العراقيون وما أن يصل والدي ووالدتي البيت حتى تكون الوقفة قد هدّت قواهم فيأكلون وينامون.

أما أنا عندما رأيت أهلي قد انشغلوا عني وجدتها فرصة سانحة لي كي أقوم بأعمال لم يكن مسموحاً لي القيام بها في الأيام السابقة لا بل كانت ممنوعة عني ففي هذه الأثناء كان قد حضر إبن الجيران وشرح لي خطة تجعله يصبح من الأغنياء فقال لي إذهب معي إلى السوق كي أبيع غرضاً من بيتي وأربح به وبعدها سأشتري غرضاً غيره من السوق وأبيعه ثانية وأربح به أيضاً وما هي إلا أشهر قليلة حتى أصبح تاجراَ وأستغني بذلك عن المدرسة ومشاكلها فما كان مني إلا أن وافقته في الحال وذهبت معه دون أن أحسب النتائج المترتبة على ذلك.

حضر الأهل ولم يجدوني في البيت فجن جنونهم واحتاروا في الأمر فهذه أول مرة أغادر فيها البيت بدون إذن من أهلي لأنني كنت أراهن مع نفسي أن أذهب وأعود إلى البيت قبل حضورهم ومع هذا قمت بقرع الباب قبل أن أفتحه كي أطمئن على عدم حضورهم قبلي فوجدتهم قد سبقوني وبدل أن أفتح الباب أنا سبقوني وفتحوا لي الباب هم وابتدأ التحقيق فوراً:مع من ذهبت؟وإلى أين ذهبت؟ولماذا ذهبت؟وكيف ذهبت؟إلى أن إنتهى هذا التحقيق بعقاب بدني لن أنساه ما حييت عندها فقط إكتشفت أن الأهل قد يضربون إبنهم.

بعد هذه الحادثة وما صاحبها من عقاب بدني ومعنوي صحوت من غفوتي تلك وبدأت أدرك ما نحن به وأصبحت أساعد أمي في ترتيب البيت في حال غيابها أو حضورها وأعمل ما أستطيع من الأعمال المنزلية لمساعدتها لكنني بالمقابل كنت قد أخذت ضوءاُ أخضراً من الأهل أن ألعب مع أصحابي وأولاد الجيران في غيابهم ولكن داخل البيت فقط وفي هذه الأثناء كنت قد تعلمت من أولاد الجيران قراءة الروايات البوليسية ولعب الورق بأنواعه ولعبة طاولة الزهر وأصبحت أجيد هذه الألعاب وأتقنها على الرغم أنني لم أر والدي يوماً قد لعبها في حياتي.
مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
التعليم في الكويت أثناء الاحتلال العراقي

كنت أحب المدرسة والمدرسون وبالمقابل كان المدرسون يحبونني أيضاً فقد كنت قد حصلت على شهادات تقدير وجوائز في كل السنوات السابقة لكنني في هذه السنة التي سبقت سنة الإحتلال (عندما كنت في الصف السابع) كان ترتيبي الرابع مُكرّر في صفي فكسروا القاعدة من أجل أن يُعطوني شهادة تقدير لتكون آخر أحلى ذكرى أتذكرهم بها على الرغم أن مثل هذه الشهادات لا تعطى إلا للثلاث الأوائل فقط.

كنت أعتبر الذهاب إلى المدرسة أفضل بكثير من الجلوس في البيت فقد بدأت أملّ من لعب الورق مع أولاد الجيران واشتقت إلى زملائي الآخرين في المدرسة فقد زاد في نفسي حب الفضول كي أعرف من بقي منهم في الكويت ومن سافر منها فأنا لي أصدقاء كثيرون ومن مختلف البلدان العربية فقد كان أهلي ينعتونني منذ صغري بالقومي العربي لأن أصدقائي كانوا من جنسيات عربية مختلفة.

لم أكن أعلم بأن العراقيين كانوا قد إستغلوا المدرسة والتعليم والأطفال الصغار أبشع إستغلال ولم أكن أعلم بأنهم فتحوا أبواب المدارس هذا العام غصباً عن أهلها وملؤوها بالجنود الأشاوس لحراستها من الكويتيين الذين لا يريدون فتح مدارسهم تحت نير الإحتلال العراقي ولم أكن أعلم بأنهم فتحوا المدارس كي يتبجحوا ويدّعوا في وسائل إعلامهم أن الأمور تسير على ما يرام في الكويت (هكذا نحن العرب نحب تجميل الصورة دوماً لنظهر أنفسنا أبطالاً أمام الناس) حتى أنهم ذهبوا إلى إحدى المدارس وجمعوا الطلبة الفلسطينيين فيها ولقّنوهم ما سيقولونه وبثوا المشهد من تلفازهم العتيد ليقنعوا الرئيس صدام حسين وأنفسهم بأن الشعب الفلسطيني يؤيدهم وبهذا كانوا قد غرزوا خنجرهم المسموم في الجسم الكويتي الفلسطيني عقاباً أبدياً لهذين الشعبيين معاً.

حمدت الله أنني لم أكن واحداً من هؤلاء الطلبة المُبتَلِين في ذلك الوقت وهذه الحادثة كانت قد ذكرتني بمشهد كنت قد شاهدته ذات يوم في التلفاز وهذا المشهد لثلاث من الطلبة العرب المتواجدين في أمريكا يريدون تعليم بنت أمريكية اللغة العربية بناءاً على طلبها فكان يقول الواحد فيهم الكلمة وهي تردّد ورائه ما يقول دون علم أو دراية فكان الأول يقول:تسقط أمريكا وردّدت البنت ما قاله لها أما الثاني فكان يقول لها:أنا حمارة والبنت تردد ما يقوله لها الثاني وأما الثالث فكان يقول لها:أنا أحبك وأريد الزواج منك والبنت تردد ما كان يقوله لها الثالث فهل تُلام مثل هذه البنت الأمريكية على ما كانت تردده وراء كل واحد منهم؟وهل يحاسبها من في رأسه ذرة من عقل على كلامها هذا؟.

دخلت المدرسة وأحلام الصغار ترفرف من حولي واندهشت عندما رأيت الجنود يستقرون في هذه المدرسة وعندما إلتحقت بطابور الصباح فيها وإذا بي أقف تحت علم آخر وأنشد نشيداً آخر لم أتعوده وأعطوني كتباً غير الكتب التي كنت قد تعوّدت على رؤيتها والأهم من ذلك كله عندما بدأ الأستاذ في شرح درسه لم أفهم عليه ما كان قد قاله لنا فكلماته أصبحت كبيرة طويلة خالية من المضمون على الرغم أنه نفسه كان أستاذي في السنة الماضية يا إلهي هل يتلوّن الأستاذ أيضاً بلون البيئة؟كنت أظن أن صفة التلوين هي فقط للحرباء.

لفت إنتباهي عدم وجود طلبة كويتيين في المدرسة!لكنني لم أفهم لماذا؟ وتساءلت في نفسي هل يوجد طالب لا يحب أن يذهب للمدرسة؟حتى ولو كان من باب حب التغيير؟هذا يعني أن في الأمر شيئاً لا أستوعبه لوحدي وسرعان ما إنتشر خبر مؤكد في المدرسة بين الطلاب والمدرسين بأن المقاومة الكويتية قد أعدمت مدرساً فلسطينياً وهو في طريقه إلى المدرسة على الفور اختلف الطلاب فيما بينهم على هذا المدرس المغدور فمنهم من قال:إنه (شهيد) وسيدخل الجنة لأن هدفه نبيل وهو تعليم الصبية والتعليم ليس له علاقة بالحاكم إن كان عباسياً أو أموياً ومنهم من قال:إنه (عميل) يريد مساعدة الظالم على ظلمه وعلى إخفاء الحقيقة وهي أن الناس ترفض الإحتلال فرد عليه الأول وقال:وماذا لو طال زمن الإحتلال هذا؟هل نلغي التعليم عندئذ؟ولماذا لا يحتج الكبار على الإحتلال؟.

هكذا استمرت الحياة في الكويت بين شد وجذب وخلاف واختلاف حتى أن الإنسان منا أصبح يختلف مع نفسه إن لم يجد من يختلف معه فقد لخص هذا الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه سائق شاحنة لنقل الماء (تنكر) عندما كتب بالخط العريض وعلى إمتداد شاحنتة من الجانبين:عليه الطلاق ما هو فاهم حاجة مما حدث ومما يحدث الآن ومما سوف يحدث مستقبلاً من يفهم فيكم عليه أن يُفهمني.

وسارت الأمور بعد ذلك إلى الأسوأ لكنني على الأقل تخلصت من الفراغ ولعب الورق لغاية يوم 15/1/1991 حيث رُمي على المدرسة من خارجها بعضٌ من إطارات السيارات القديمة المشتعلة فهرع الجميع إلى تلك النار وأخمدوها بالرمال بعد ذلك جمع المدرسون طلاب المدرسة كلها في صف واحد وبعدها ألغي دوام ذلك اليوم الذي كان آخر عهدي في المدرسة بعد أن قصفت طائرات التحالف بغداد وبدأت الحرب وأقفلت المدارس أبوابها بالقوة كما كانت قد فُتحت أبوابها بالقوة.
مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
اليوم الأول من أيام حرب تحرير الكويت

في الساعة الثانية عشرة ليلاً من يوم 17 يناير 1991 بينما كنت أغط في نوم عميق صحوت على جار لنا وهو يدق على بابنا دون أن يستخدم الجرس كما هي العادة ويقول:إنهضوا من نومكم فقد بدأت الحرب جهزوا أنفسكم بسرعة كي نذهب معاً إلى الملجأ!لم أفهم ما قاله جارنا مما جعلني أتسائل مع نفسي في الحال:أي ملجأ هذا؟فأنا لم أسمع بهذه الكلمة من قبل على الرغم أنني لم أفاجأ بالحرب لأنني كنت أسمع الناس من حولي يتوقعونها في أية لحظة فالحرب كانت متوقعة من قبل الجميع.

صحت أمي من نومها وكذلك أبي ومضت تجمع أوراقنا الثبوتية والمهم من الأوراق الرسمية وما تملكه من ذهب وما نملكه من فلوس ووضعت كل ذلك في قطعة قماش طويلة وقامت بطيها إلى أن أخفت كل ما فيها وقامت بربطها على وسطها تحت ملابسها وبقي هذا الثقل مُعلقاً على وسطها ليلاً نهاراً إلى أن وضعت الحرب أوزارها أما أبي فقد سأل جارنا:أين سنذهب يا جار؟أيوجد مكان آخر في هذا العالم أكثر أمناً للإنسان من بيته؟فقال جارنا:إن ما تقوله يا جار يكون صحيحاً في زمن السلم أما في زمن الحرب فيصبح كل شيء مستهدف وعليك أن تبحث عن مكان آمن لا يتوقعه العدو فهناك سرداب في المدرسة الخاصة المجاورة لنا أعتقد أنه أكثر أمناً من بنايتنا لم يقتنع والدي بما قاله جارنا لكنه رضخ تحت إصرار أمي وجارنا معاً.

ذهبتُ بمعيّة أهلي والجيران إلى سرداب المدرسة القريبة من بيتنا فوجدناه مليئاً بألواح الخشب وبدأنا نخرج هذه الألواح الخشبية مُجتمعين كي ننام مكانها في الليالي القادمة والتي لا يعلم عددها غير الله وفي هذه الأثناء رفعتُ لوحاً خشبياً بسرعة دون أن أنظر إليه فدخل في يدي جزء منه فجرحني وأسال الدم من يدي لكن أحداً لم يهتم بي فالجميع مشغول عني وقد تركت هذه الخشبة اللعينة أثراً في يدي حتى يومنا هذا.

لم ننم في تلك الليلة اللعينة بل أصبحنا نتبادل الأمكنة مرة في البيت ومرة في الملجأ وانفرط عقد عائلتنا الصغيرة وأصبحت العمارة كلها عائلة واحدة وفي اليوم التالي أيقنّا أننا لسنا المُستهدفين في الحرب فعدنا إلى بيتنا ثانية وبدأت الأزمة تشتد فلا ماء ولا كهرباء ولا خضار ولا فواكه ولا غاز ولا بنزين ولا هاتف وأصبحت حياتنا ثقيلة وبدأ الوضع يتحول من سيء إلى أسوأ عندها أيقنتُ أننا سنموت لكن ليس الموت هو المُهمّ بل طريقة الموت هي الأهمّ!فهل نموت جوعاً أو عطشاً؟أو نموت بصاروخ عراقيّ يُخطئ هدفه فيصيبنا؟أم نموت بصاروخ من قوات التحالف يُطلقونه على الجيش العراقي فتصيبنا بعض أجزائه؟أم نموت حرقاً أو خنقاً لو اشتعل بترول الكويت؟.

وبدأنا ننتظر الطريقة التي سنموت فيها وإذا بهم يُشعلون آبار البترول عمداً ويُغرقون شواطئ الكويت أيضاً بالبترول لتلويثها حتى لا يستخدمها الحلفاء في إنزال جنودهم فيها وتلبدت سماء الكويت بالدخان الأسود وحجبت عنا الشمس تماماً وأصبحنا نعيش في ظلام دامس حتى أن السيارات تشعل أنوارها نهاراً إذا اضطرت للسير في الشوارع وانتشرت رائحة الكبريت الخانقة وتلوث الجو والهواء وأصبحنا نتنفس الدخان في كل مكان في البيت وفي الحمام وفي الشارع وفي السيارة أما إذا التقى أحدنا بالآخر فكان كل واحد منا يزيل ما علق على الآخر من آثار الدخان والحرائق واستمر هذا الوضع بشكل أو بآخر حتى غادرنا الكويت في 6/8/1991.
مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
أيام تحرير الكويت

إنتظرت تحرير الكويت وعددت الساعات التي إستغرقت في تحريرها فوجدتها مائة ساعة كنت فيها كالولد الذي غابت عنه أمه وينتظر قدومها على أحر من الجمر كي يشكو لها ما حلّ به في فترة غيابها من غمّ وهمّ وحزن وجوع وعطش وخوف ورعب وينتظر منها أن تعيد له مفاهيمها وقيمها التي ربّته عليها بعد أن كُسرت كل هذه القيم والمفاهيم في غيابها.

لكنني فوجئت بالكويت بعد عودتها من الأسر فوجدتها قد أنساها من كانت بعهدتهم أمومتها وقيمها ومفاهيمها وحنانها ومستقبلها بل حتى ماضيها بعد أن ألبسوها ثوباً غير ثوبها العربي! وفوجئت أكثر عندما كانت قد إحتضنت الأغراب ونسبتهم لقبائلها بدلاً من أن تحتضن أبنائها العرب بعد أن غيرت إسم الرئيس الأمريكي إلى بوش الكندري ظناً منها أنه سينقل لها الماء على ظهره وتستغني بذلك عن كندرية العرب.

وفوجئت أكثر وأكثر عندما أصبحوا يطاردون الفلسطينيين بعد أن أنهوا خدماتهم ولم يكتفوا بذلك بل استدعوا والدي مرة من المرات على الهاتف لمراجعة مخفر السالمية ولم أنم في تلك الليلة حتى عاد والدي في آخرها سالماً معافى وفرحت عندما طلبوا منا تسجيل أسماء الطلبة منا تمهيداً لحصر أعدادنا وتوزيعنا على مدارسهم وإذا بهم يحرموننا من التعليم في مدارسهم وبهذا أعادوني إلى المربع الأول الذي بدأت منه فراغ كبير وحبس في البيت.

أذكر أنني فرحت جداً عندما طلب والدي من صاحب مكتبة قريبة من بيتنا تبيع الكتب والقرطاسية كان من بين طلابه السابقين وأستاذي في زمن الاحتلال أن أداوم في مكتبته بأجر رمزيّ فوافق في الحال وكان دوامي فيها نقلة نوعية لي فقد جربت العمل والراتب وكونت علاقات صداقة مع من هم أكبر مني سناً وأتقنت البيع والشراء حتى أنني تمكنت من بيع سيارة والدي إلى مدرس كويتي عندما أردنا السفر من الكويت.

ولن أنسَ في يوم من الأيام ما حييت عندما هاجمنا نفر من المُستعرِبين في الكويت وليس من الكويتيين الأصليين في المكتبة التي كنت أعمل بها في شارع عمان وقالوا لنا:أنتم فلسطينيون ولا مكان لكم عندنا!فبعثني صاحب المكتبة لأستعين بالكويتيين الأصليين كي يُخرجوا هؤلاء الأعراب والمستعربين من المكتبة وفرحت أكثر عندما حضروا وأخرجوهم من المكتبة وهم صاغرون وفرحت جداً عندما قدِم جار لنا من الجنسية المصرية كان قد التحق بالجيش الكويتي وأحضر لنا من التموين ما كنا قد افتقدنا منذ مدة طويلة.

وفرحت عندما وزعوا علينا طروداً غذائية عشوائية وكان طردنا يحتوي على دجاجة كان لها وقع جميل على جميع أفراد الأسرة بعد أن تم طبخها مع البطاطا وهذه الدجاجة كان لها الأثر الأكبر في تغيير تقاليدنا في المستقبل فقد أصبح من صلب تقاليدنا في بيتنا أن نحتفل كل سنة في بداية شهر رمضان المبارك بأكل الدجاج مع البطاطا وفرحت عندما بدأت أمي تشتري لي الملابس والقرطاسية بالجملة كي أصطحبها معي إلى عمان وقد مر علي سنتان بعد الإقامة في عمان لم أشتر فيها ملابس ولا دفاتر.

كما وأرعبني الجنود الكويتيون قبيل دخولنا للمطار مغادرين إلى عمان ولم يكتفوا بذلك بل أهانوني أثناء التفتيش الجسدي ومنعوا والدي من مرافقتنا إلى داخل المطار بحجة أنه من مواطني دول الضد أي الأردن وفلسطين واليمن والسودان بالإضافة إلى العراق طبعاً لكن المشكلة لم تنته بمغادرتنا أرض الكويت فهي لا زالت قائمة فوالدي بقي في الكويت لتسوية حقوقه المالية فيها ولا زلت أشعر بالرعب الذي لن يزول من مخيلتي إلا إذا حضر والدي من الكويت وبقي معنا.

وحزنت على تشتت زملائي في الدراسة فزملائي كانوا من مختلف البلدان العربية وسوف لن نلتقي بعد هذا اليوم إلا أن الصدفة وحدها قد شاءت بعد تخرجي من الجامعة فقمت بالسفر إلى مصر وتمكنت من إعادة بعض العلاقات التي كانت قد قطعت وكذلك سافرت إلى لبنان وسوريا والسودان واليمن وبحثت عن أصدقائي في هذه البلدان وأعدت العلاقة بين زملاء الطفولة لأن صحبة الكويت لا ولن تنسى.
مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
في الطريق إلى سلفيت

عندما أردنا السفر أنا وإخوتي ووالدتي من الكويت إلى عمان لم نجد طيراناً مباشراً إلى عمان فكان علينا أن نذهب إلى بيروت أو إلى البحرين ثم نتجه إلى عمان لأننا من مواطني إحدى الدول المغضوب عليهم آنذاك والتي أطلقوا عليها اسم دول (الضد) فتشكلت على الفور شركة مصرية لنقل هؤلاء الركاب المغضوب عليهم من الكويت إلى بلدانهم اسمها (زاس) لأن مصر من دول (المع) وكنا أول من ركب في أولى طائراتها المتجة إلى عمان.

نزلنا في مطار الملكة علياء الدولي وكنت أنا وأمي أوّل من نزل من ركاب الطائرة على أرض المطار ولن أنس موظف الجوازات عندما اندهش من وجودنا في المطار فطائرتنا ليست مدرجة في جدوله فسألنا على الفور:أي طائرة نقلتكم؟فقلنا له:زاس من الكويت فقال:أهلاً وسهلاً بكم في بلدكم وعندما خرجنا من المطار وجدنا جدي لأمي في استقبالنا وسار بنا إلى مدينة أبو نصير حيث كان يقيم مؤقتاً عند خالتي القادمة من دزلة الإمارات.

في اليوم التالي اتصلنا تلفونياً بوالدي الموجود في الكويت لنطمئن عليه ويطمئن علينا ولن أنس صعوبة الاتصال التلفوني في ذاك الوقت فقد كان من يملك خطاً تلفونياً كأنه يملك خاتم سليمان ومنهم من استغله أبشع استغلال وكنا قد بعنا السيارة وكل أثاث منزلنا في الكويت بناءً على إشاعة تقول:أننا ممنوعون من الإقامة والعمل في الأردن لأننا مواطنون فلسطينيون لكننا قمنا بشحن بعض أغراضنا الخفيفة إلى عمان وبعد أن وصلت ذهبت مع والدتي وأحضرناها من الجمارك.

أذكر أنني ذهبت مع جدي إلى مدينة الجبيهة الترويحية في عمان ولعبت بجميع ألعابها وما أن دخلتها حتى تذكرت جدي وهو في زيارته الأخيرة للكويت عندما كنا قد أخذناه معنا إلى مدينة ألعاب الدوحة في الكويت التي كانت تشبهها وفي الطريق مازحته بقولي له:واحدة بواحدة والبادئ أكرم يا جدي عندها ضحك وقال:كل شئ في هذه الحياة يا جدي قرضة ودين حتى دموع العين طبعاً لم أفهم ما قاله لي جدي ومع هذا لم أطلب منه المزيد من التوضيح.

بعدها التقيت بأستاذي علي الشراونة إبن صاحب المكتبة التي كنت قد عملت معه في الكويت أيام الاحتلال وكان هذا اللقاء بالنسبة لي مفاجئة كبيرة لم أكن أتوقعها في يوم من الأيام بعدها ذهبت إلى مدينة الزرقاء عند أقارب لنا وتعرفت عليهم ونسيت أن أقول لكم أنني في أبو نصير كنت أذهب مع أولاد خالتي لنشتري البوظة من البقالة لكنها كانت بعيدة عنا فنأخذ صحناً مملوءاً بالثلج كي تحتفظ البوظة ببرودتها ولا تذوب.

وأخيراً وصل والدي إلى عمان سالماً غانماً وذهبنا معه لنزور أحد أصدقاء العائلة في مدينة أبو نصير فأقنعه صديقه بعدم سفره معنا إلى سلفيت الآن بل عليه أن ينتظر هنا في عمان ويبحث عن عمل وسكن لنا وما أن يجدهما نعود من سلفيت ونعيش معه هنا في عمان واستعد صديقه أن يساعده في البحث عن عمل وسكن وكان والدي قد اقتنع بنصيحة صديقه فغيّر على الفور خطته السابقة وقرر إرسالنا إلى سلفيت وحدنا ويبقى هو في عمان للبحث عن عمل وسكن فإذا تم ذلك سنعود إلى عمان ثانية وإذا لم يتحقق ذلك فسيلحق بنا بعد أن نكون قد انتظمنا في المدارس هناك.

في اليوم التالي جمعنا كل أغراضنا التي كنا قد أحضرناها معنا من الكويت فبانت كثيرة فما كان من والدتي إلا أن فتحت ستارة كانت قد أحضرتها معها ووضعت كل الأغراض فيها وربطتها كالكيس وأصبحت المشكلة في تحريك هذا الكيس وتحميله وتنزيله وقبل أن نسافر أخذنا والدي إلى سوق الزرقاء واشترينا كل ما كنا نعتقد أنه يلزمنا في سلفيت ثم تناولنا طعام الغداء في مطعم دمشق الذي كان موجوداً في شارع الجيش ثم استأجرنا سيارة خاصة بنا لتنقلنا إلى الجسر كي نذهب إلى سلفيت وفي الصباح ذهبنا إلى جسر العودة.
مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
الأيام التي قضيتها في سلفيت

وصلت سلفيت مُتعباً مُرهقاً نتيجة للإجراءات الأمنية المُملة التي واجهتني على جسر العودة وما أن وصلت البيت حتى وجدت الأهل والأعمام والأخوال والأقارب والأصدقاء يلتفون من حولنا ومعهم أولادهم وبناتهم وعلى الفور انضممت إليهم في اللعب فنسيت التعب الذي كنت أشعر به والأهم من ذلك كله أنني وجدت من الأطفال من هم من جيلي كي ألعب معهم فأولاد عمي وأولاد خالي وأولاد عمتي كلهم من جيلي تقريباً فقد زهقت الوحدة التي كنت أعيشها في الكويت لأن إخواني كانوا أصغر مني بخمس سنوات.

في اليوم التالي ذهبت مع والدتي إلى مديرية التربية والتعليم في طولكرم لإحضار قبول إلى مدرسة سلفيت وإذا بهم لا يعترفون بالسنة التي قضيتها في الكويت بأنها سنة دراسية لذا كان لا بد من إخفاء شهادة الانتقال التي بحوزتنا وسيكون البديل هو دخول امتحان في المواد الدراسية الرئيسة وبناءً عليه يتحدد الصف الذي أُقبل به وهكذا كان فقد أدخلوني إلى اختبارات في جميع المواد الدراسية ونجحت فيها وسجلت في المدرسة ولم يفتني العام الدراسي.

كانت الانتفاضة الفلسطينية على أشدّها عندما ذهبت إلى المدرسة مشياً على الأقدام لأول مرة فأنا لم أعتد على هذا الوضع الجديد حيث كنت أذهب بسيارة والدي للمدرسة وأحضر معه والجديد كذلك أنني لا أجيد التصرف عندما يأتي الجيش الإسرائيلي ويقتحم المدرسة عندها أكون آخر الهاربين لأنني لا أعرف كيف أهرب؟وإلى أي مكان أهرب إليه؟مما اضطرني إلى أن أبقى ملازماً لابن عمتي الذي كان معي في الصف نفسه لكن الأهل كانوا يراقبون الموقف عن كثب فإذا قدم الجيش الإسرائيلي وتفرق الأولاد أجد أمي وعمي وخالي وجدي كلهم يبحثون عني ليوصلونني إلى بر الأمان إلى أن أتقنت لعبة الهرب وأصبحت من أول الهاربين.

أحببت الحياة والعيش في سلفيت رغم مضايقة الجيش الإسرائيلي وعلى الرغم من قصر المدة التي قضيتها هناك فأنا لم ولن أشاهد منظر التين هذا في أي مكان في هذا العالم ولأنها كانت أول تجربة لي أعيشها بين أهلي وأقاربي وفي بلدي حيث هنا أعرف الجميع والجميع يعرفني وما هي إلا أيام قليلة حتى بدأت فترة صعبة أخرى في حياتي أعادتني إلى المربع الأول فأنا لا أعرف أين سيكون المُستقَر؟هل سأبقى هنا في سلفيت أو أعود إلى عمان؟لكن من حسن حظي أن هذه الفترة لم تدم طويلاً فقد استدعانا والدي لنعيش معه في عمان بعد أن وجد العمل والسكن هناك.

أحببت المدرسة بكل ما فيها والمدرسون أحبوني أيضاً وأسفوا بل وفوجئوا عندما علموا أنني سأغادرهم إلى عمان فقد كنت من الطلبة الذين يساعدون المدرس ولا يحبطونه أثناء الحصة عارض الأهل خروجنا إلى عمان لأنهم لا يريدون للمأساة أن تتكرر لكن القرار كان بيد والدي وليس بيدهم وقد اتهم أخوالي وأعمامي والدي بأنه هاوٍ للمتاعب والمشاكل لأنه طلبنا لنعيش معه في عمان.
مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
أما آن لهذا الطالب أن يستقر؟

وأخيراً وليس آخراً وجد والدي عملاً له في مدينة عمان مدرساً للرياضيات في مدارس البتراء النموذجية في خلدا بعمان لكنه لم يجد لنا سكناً إلا في عوجان بمدينة الزرقاء واستدعانا لنقيم معه هناك وبهذا يكون قد تقرر سفرنا إلى عمان وسفرنا هذا سيكون خلال بضعة أيام وأول عمل قمنا به هو الحجز المسبق للسيارة التي ستنقلنا من مدينة سلفيت إلى الجسر محملين بنفس الأغراض التي كنا قد أحضرناها معنا من عمان وبهدايا غيرها من الأهل والأقرباء.

نسيت أن أقول لكم أنه في أثناء هذه الفترة القصيرة التي عشتها في مدينة سلفيت كان قد وقع بيدي كتاب للشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي لم أكن قد سمعت به من قبل فأعجبتني قصائده الوطنية وأهم ما قرأته له وتأثرت به بيت الشعر الذي كنت أراه ينطبق على حالتي: وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر ومنذ ذلك اليوم قررت في داخل نفسي أن لا أجعل من وطني حقيبة وأن لا أكون مسافراً لكن عندما أمتلك زمام نفسي وأصبحت أنتظر قدوم هذا اليوم على أحر من الجمر.

والأهم من ذلك كله كانت ليلة الوداع التي لن أنساها فقد حضر الأهل والأقارب والجيران والمعارف لوداعنا وهم محملين بهدايا الوطن فمنهم من كان يحمل معه الزيت والزعتر ليكون فطورنا اليومي ومنهم من كان يحمل معه أكياساً معبأة بالمرمية لتوضع مع الشاي وتعطيه طعماً مميزاً ومنهم من كان يحمل معه ورق العنب المكبوس في زجاجات بلاستكية ليكون جاهزاً للف عند الطلب صحيح أن مثل هذه الهدايا بسيطة لكنها تذكرنا بالوطن صباح مساء.

جاءتنا السيارة في تمام الساعة الثانية ليلاً لتنقلنا إلى الجسر وكان هذا الموعد لكي نضمن سفرنا وعلى هذا الجسر سننتظر حتى تصبح الساعة الثامنة صباحاً ويفتح اليهود هذا الجسر وتساءلت في نفسي مرة ثانية: هل يحدث هذا معي لولا حرب داحس والغبراء أي حرب الخليج؟ وبقيت تحت هذا الكابوس إلى أن قطع راديو السيارة التي ستنقلنا إلى عمان تسائلي مع نفسي بأغنية: يا ظريف الطول وقف تقولك رايح على بلاد الغربة وبلادك أحسن لك خايف يا محبوب تروح وتتملك وتعاشر الغير وتنساني أنا وأجهش الجميع في البكاء بمن فيهم أنا فأول مرة أشعر بدفء العلاقات الأسرية مما جعل السائق يصيح في الجميع قائلا: وحدوا الله يا جماعة عمان ليست غربة وأقفل الراديو فوراً.

وصلنا بيت عمي أبو العبد في مدينة الزرقاء ليلاً وبعد استراحة قصيرة هناك تناولنا خلالها طعام العشاء أخذنا والدي إلى السكن الجديد وإذا بها بناية هائلة يسكن فيها كل من هب ودب فهي تتسع لقرية كاملة في داخلها لكن المضطرّ يركب البحر فقد دفع والدي 500 ديناراً خلوّاً لشقتنا هذه ورممها بنصف هذا المبلغ لكنني وجدت في هذه القلعة أناساً مثلنا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتصادقت مع أولادهم.

وقبل أن أدخل المدرسة في مدينة الزرقاء كنت خائفاً وعندما دخلتها ازددت خوفاً عندما طلبوا مني تأدية امتحان في جميع المواد الأساسية كي يحددوا لي الصف الذي سأكون به وأنا منذ 15/1/1991 لم أمسك بيدي ورقة ولا قلماً وتبدلت في هذه الفترة علي أربعة مناهج مختلفة: الكويتي والعراقي والفلسطيني وسيكون الامتحان بالمنهج الأردني يا إلهي لكن الله دائماً يقف مع الصابرين إذا صبروا فيسر لي نائب المدير وبعض المدرسين الكرام الذين وقفوا معي وساعدوني في هذا الامتحان الذي كنت قد قدمته في مدرسة عوجان الأساسية ولا يسعني بعد هذه السنين إلا أن أقدم لهم أسمى آيات الحب والإحترام وإلى كل من وقف بجانبي في تلك الأزمة العابرة في حياتي.

نجحت في الامتحان الذي أدخلوني عليه ودخلت الصف التاسع بعدها ذهبت إلى غرفة الصف وجاء الأستاذ ليعطي حصته فقال له الطلاب أن في الصف طالباً كويتياً جديداً ـ هكذا كانوا يقولون عنا في الأردن ـ فقال الأستاذ: ليخرج هذا الطالب إلى اللوح فوراً قالها دون أن يرى شكلي وقبل أن أصله ضربني بالكف على وجهي وقال: أنت هنا يا ولد لست في الكويت واعلمْ أن زمن الرفاهية والدلع قد انتهى عليك أن تكون رجلاً بمعنى الكلمة حيرني هذا الكف ـ حتى هذه اللحظة ـ وأشعرني بأنني السبب المباشر لاندلاع حرب الخليج وبقيت حزيناً إلى أن انتهت هذه الحصة وكانت الحصة الأخيرة في ذلك اليوم المبارك.

خرجت من الصف كي أعود إلى البيت وكنت مُجهزاً بجميع أدواتي المدرسية فقام أحد الطلاب بخطف حقيبتي مني وتخاطف زملاؤه ما بها من قرطاسية وأدوات مدرسية كنت قد أحضرتها معي من الكويت وفهمت بعدها أنك إن لم تكن ذئباً فستأكلك الذئاب وعندما عُدت إلى البيت حضّرت دُروسي كاملة كعادتي القديمة وتذكرت الكويت وحرب الخليج وما أوصلني إلى هذه المدرسة اللعينة وهؤلاء الطلاب الشرسين فالفرق واضح بيننا وبينهم فألفاظهم كانت بذيئة وكانوا عدوانيين أكثر من اللزوم وعلى الفور أفردت دفتراً خاصاً من دفاتري وبدأت أكتب عن أحداث حرب الخليج وأعبر عن حبي الخفي للكويت لأنني لا أستطيع البوْح بذلك أمام من حولي فقد كان الجو مشحوناً ودون أن يعلم أحد منهم بذلك.

وما حيّرني في هذه المدرسة أكثر أن طلابها كانوا من (الكواسر) على الرغم أنهم أطفال صغار فلم أجد فيهم البساطة والبراءة التي كنت أجدها في طلاب مدارس الكويت على الرغم أننا من جنسية واحدة إلا أنهم أصروا على الابتعاد عني وكان من يقترب مني في الخفاء يكون حذراً وكأنه مُراقب عن بعد!والعجيب في الموضوع أن هؤلاء الطلاب كانوا قد استوعبوا من كان يُقيم في الكويت وحضر قبل الحرب أما من قدم بعد الحرب فنبذوه وابتعدوا عنه.

وفي هذه الأثناء كنت تعرفت على بعض من كانوا يعيشون في الكويت أصلاً لكنهم حضروا قبلنا واندمجوا في المجتمع إلى حدٍ ما وبحثت عن أصدقائي ممن كانوا في الكويت بعد أن تشتتنا ثم التقينا ثانية لكن لم تطل هذه الفترة كثيراً فلقد أثبت وجودي بينهم في المدرسة وفي أحد الأيام حضر نائب المدير ليصيح في طلاب صفي قائلاً: ألا تستحون بأن يكون الأول عليكم قادماً من الكويت؟ وما هي إلا بضعة أشهر حتى فكوا عني هذا الحصار وعشنا بقية السنة زملاء وتشاء الأقدار بعدها أن أنتقل إلى مدرسة الزرقاء الثانوية وأتخرج منها عام 1995 حيث تخرج والدي منها أيضاً ولكن عام 1968.
مذكرات طفل عربي فلسطيني عن حرب الخليج
زيارتي الأولى للكويت بعد حرب الخليج

لكل إنسان في هذا العالم مسقط رأس ـ ليس من إختياره ـ يستطيع الذهاب إليه في الوقت الذي يشاء إلا أنا فلا يسمح لي أن أرى مسقط رأسي ومرتع طفولتي وأيام صباي لكنني بعد أن تخرجت من الجامعة تشاء الأقدار أن أعمل مديراً للأسواق الخارجية لإحدى شركات الأدوية وكان من ضمن هذه الأسواق سوق دولة الكويت وبعد أن رتبت هذه الشركة طقوس زيارتي للكويت قلت في نفسي مع الشاعر الذي:وقد يجمع الله الشتيتين بعدما … يظنان كل الظن أن لا تلاقيا.

وعندما وصلتها بعد (خمسة عشر سنة) على فراقها وضعت أغراضي في الفندق بسرعة واستأجرت سيارة سياحية وطلبتُ والدتي عبر الهاتف من عمان كي أصف لها المنظر الرائع الذي كنت أراه أما لماذا والدتي؟فلأنها الوحيدة التي ستفهم عليّ ما سأقول فوالدي كان يعتبر الكويت صفحة في حياته (طويت) ولا يريد أن يفتحها ثانية وأصبح يردد بين الفينة والأخرى:أن سعادة المرء لا تكتمل إلا إذا كان رزقه في بلده أما إخوتي فكانوا صغاراً في السن لن يفهموا ما سأقوله لهم لو تكلمت معهم.

بدأت أصوّر كل شيء صوّرت الفندق الذي أقيم فيه في (دوار البدع) ثم ذهبت إلى (شارع الخليج العربي) وإلى (الواجهة البحرية) ثم ذهبت إلى (السالمية) وإلى (شارع عمان) حيث كنا نسكن وزرت بعض الجيران السابقين الذين لا زالوا يقيمون في الكويت من الجنسيات العربية الأخرى طبعاً غير الفلسطينية وفي الأيام التالية ذهبت إلى (الأسواق) و(المولات) و(الأماكن العامة) التي لم تكن موجودة أثناء إقامتنا في الكويت إلا أن الكويت عموماً لم تعد كما كانت في الماضي فقد تغيّر فيها كل شيءٍ بعد أن داهمها الجديد من البنايات العالية وأسدلت الستارة على القديم بحلوه ومره.

