ذهب الدليل بمن معه في باص الرحلة إلى التلفريك بعد الغداء مباشرة دون أن يمر علينا أو يأخذنا معه وأراد بذلك معاقبتنا فذهبنا وحدنا وعندما وصلناه أدهشني خط سيره فهو يأخذك من بيروت إلى الجبل ويعيدك ثانية إلى بيروت وما أن ركبت به وربطت الحزام وأطلقنا من يعمل عليه حتى وجدت نفسي بين العمارات السكنية فارتعبت خوفاً وقررت أن أغمض عيناي أو أنظر إلى الأعلى كي لا أخاف أكثر وما أن وصلت الجبل حتى حمدت الله على الوصول ظناً مني بأن الرحلة كانت قد إنتهت لكن عندما نزلت على الجبل أدركت أن الرحلة لم تنته بعد وهذا يعني أن للخوف بقية فقلت في نفسي: إذا كان الصعود أخافني بهذا الشكل فكيف سيكون الهبوط؟ ولم أر شيئاً على الجبل وأنا أفكر بطريق العودة وأخيراً عدنا إلى بيروت ثانية ووعدت نفسي أن لا أركبه مرة ثانية لو حضرت إلى هنا في المرات القادمة.
وخرج من خرج من المعارضة بعد أن نزلنا من باص الرحلة واستأجرنا عدداً من التكسيات الصفراء كي توصلنا إلى المطعم في جونيه ووصلنا ذلك المطعم (الخرافي) فهو مكون من عدة أجنحة منها ما هو مكشوف على البحر مباشرة ومنها ما هو مغلق مكيف!واخترنا مكاناً مكيفاً وجلسنا فيه وما هي إلا دقائق حتى حضر الجرسون ومعه شراب خاص ولوز منقوع في الماء لسد رمق جوعنا حتى يحضرون لنا ما طلبنا من أكل وعندما حضر الأكل اللبناني الحقيقي أكلنا وشبعنا وبعد الأكل ضيّفونا كل أنواع الفاكهة وفوجئت بأن هذه الضبافة دون ثمن وعندما سألت عن ذلك قيل لي أنها عادة لبنانية أصيلة.
ذهبنا إلى مغارة جعيتا وفي الطريق إليها قلت في نفسي ما الذي يمكنني أن أراه في مغارة؟ لأن المغارة في ذهني هي مكان ضيق يتواجد في سفوح الجبال يقوم الإنسان بتوسيعها ليتقي بها شر الأمطار الغزيرة أو أشعة الشمس الحارقة ولم أكن أعلم أن الله قد يهب المغارة للناس واسعة بهذا الشكل لكنني بعد أن رأيتها استهجنت عليها هذا الإسم فهي صرح عظيم من صنع الله وهبة مباركة منه لأهل هذه البلاد ولا بد من إعادة النظر في تسميتها فاسمها يعطي انطباع سئ عنها لمن لا يعرفها أو يسمع عنها من قبل.
داخل مغارة جعيتا
وهنا لا بد لي من القول أن مغارة جعيتا في لبنان هي المكان الوحيد في هذا العالم الذي رأيته وعجز لساني عن وصفه بل كل ما أستطيع قوله أنها مكان واسع كبير في داخل الأرض تدخل إليه مشياً على الأقدام وتسير فيه حتى تتعب ثم تركب القارب ويسر فيك إلى أن يتعب هو الآخر وتتسلق فيها أدراجاً متنوعة حتى تتعب ثم تعود بعد أن تكون قد شاهدت مناظر طبيعية عجيبة غريبة لا أستطيع وصفها ولا أستطيع تصويرها لأن التصوير ممنوع في داخلها فاكتفيت بتصوير مدخلها من الخارج فقط.
في اليوم التالي ذهبنا إلى متحف المشاهير في بيروت فوجدنا فيه تماثيل لشخصيات لبنانية وعربية وعالمية مصنوعة من الشمع بعضها أتقنوا صنعه والبعض الآخر بعيد كل البعد عن شكل صاحبه وما لفت نظري عدم وجود تمثال لـلمطربة اللبنانية فيروز بين هؤلاء المشاهير فسألت الموظفة عن السبب فأجابتني بأن فيروز لا تحب الشهرة وبعد أن تجولت في هذا المتحف وجدتهم قد دسوا السم بالعسل فاختاروا أدباء وعلماء وفنانين عرباً وعالميين تغطية لما يريدون قوله لنا وتركوا الباب مفتوحاً لمن يدفع أكثر من الساسة والملوك والرؤساء العرب ولكي لا يظهروا على حقيقتهم دمجوا الرؤساء العرب برؤساء عالميين ليظهروا برائتهم أكثر.
تمثال ياسر عرفات
فمثلاً وضعوا تمثالاً للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات مع ملوك المملكة العربية السعودية في غرفة واحدة واختاروا له صوره مهزوزة عندما كان في أسوأ حالاته الصحية وجسموها فمن يراها لا يرى العزة والكرامة والشموخ والشجاعة والثورة بل يرى شخصاً مسكيناً يتيماً تجوز عليه الصدقة أما تمثال الوليد بن طلال صانع النجوم والفن والفنانين فقد إحتل غرفة لوحده في هذا المتحف غير الغرفة التي تحوي ملوك السعودبة أما تمثال الزعيم الخالد جمال عبدالناصر رئيس جمهورية مصر العربية السابق فكان متواضعاً ووضعوا بجانبه تمثالاً أكبر منه وأضخم وأجمل لحسني مبارك الرئيس الحالي.
تمثال محمد سعيد الصحاف
والأهم من ذلك كله أنهم وضعوا تمثالاً لرئيس جمهورية العراق صدام حسين لا يليق به وصنعوا تمثالاً آخر لوزير خارجيته ووزير إعلامه في ذلك الوقت محمد سعيد الصحاف وجعلوه متكلماً يروي اللحظة السوداء في تاريخ أمتنا العربية وهي لحظة إحتلال أمريكا لبغداد بصوته وعندما سمعنا ما قاله الصحاف في تلك الأيام إختلفنا أكثر وأكثر وانقسم القوم إلى قسمين فمنهم من قال أن من صنع هذه التماثيل هم أعداء الأمة المتربصين بها ومنهم من قال أن المنتصر هو من يروي التاريخ كما يريد.
وأخيراً، تحقق حلمي القديم، ودخلت مدينة بيروت، وبدأت على الفور، أقرأ كل ما كتب على اللافتات الكثيرة المزروعة، على أكتاف الطرق، والشوارع، والساحات العامة، ومن خلال النظرة الأولى إلى هذه اللافتات، رأيت التاريخ، والجغرافيا، والفن، والجمال، والعصرنة، والتسويق، والسياسة، والماضي، والحاضر، والمستقبل، والأهم من ذلك كله، وجدت بيروت هي الأقدر بين عواصمنا العربية، على تجديد شبابها، والنهوض من كبوتها في كل مرة، وما لفت إنتباهي في بيروت أكثر، أنهم يستعملون كلمة (خرضوات)، بدلاً من (خردوات)، وكأنهم يكتبون ما يلفظون.
مطعم سمك يديره سماسرة والدليل واحد منهم
أثناء ذلك، بدأ الدليل يُسوّق مطعماً معيناً للسمك في بيروت، وادعى بأنه الأحسن والأنظف، وبعد أن ذهبنا معه إلى ذلك المطعم، لتناول وجبة الغداء، وإذا به مطعم يديره سماسرة، والدليل واحداً منهم، لكن هذا الدليل استطاع أن يضعنا تحت الأمر الواقع، فنحن كنا في غاية التعب والجوع والإرهاق، وبعد أن دخلنا مطعمه هذا، وطلبنا الأكل، لم نأكل منه شيئاً، ودفعنا ثمنه مبلغاً من المال، بعد أن تضاعف سعره بالسمسرة.
جونيه
وهنا إحتج نفر من الشباب على هذا التصرف من قبل الدليل، واتفقوا فيما بينهم، على أن يبحثوا عن مطعم آخر غير الذي يعينه لهم الدليل في المستقبل، وعلى إثر ذلك، تكهرب الجو بيننا وبين الدليل، بعد أن خاف الدليل على عمولته في المرات القادمة، ونكاية بنا، قام بتوزيعنا على أكثر من فندق، كي يشتت شمل المعارضة، التي بدأت تنمو ضده، وكان نصيبي في ذلك التوزيع (جونيه) على شاطئ البحر، وهناك تكونت المعارضة، واتفق من حضر من الشباب فيما بينهم، على أن يكون الغداء غداً في مطعم (مانويلا) المشهور في بيروت، الذي لا يبعد عن فندقنا، سوى بضعة أمتار معدودة فقط، بعد أن سألوا عن المطاعم المحترمة في بيروت.
ولد موسى في مدينة حلب أو منطقتها إذا شئت، وبعد أن تشبّع خياله بقلعتها العظيمة رحل مع والده إلى لبنان وسكن في بيوت الصفيح فيها كغيره من الأغراب الفقراء، وعندما ذهب إلى المدرسة وجد نفسه في مدرسة مختلطة، وفي احدى الفرص أراد أن يتكلم مع زملائه الطلبة فكان من تكلم معه بنتاً فتركته على الفور وقالت له: إذا كنت تعيش في قصر فكلمني، فتراجع عند سماعه هذه الكلمة التي لم يفهم معناها وعندما عاد إلى بيته سأل والدته عن معنى هذه الكلمة التي لم يسمع بها من قبل، فقالت له أمه: القصر يا ولدي بيت كبير فيه خدم وحشم.
أستاذ موسى في المدرسة
بدأ موسى يفكر في امتلاك البيت الكبير على حد تعبير والدته والقصر على حد تعبير زميلته في المدرسة، وأخذ يصمم ما يحلم به على الورق وانشغل في ذلك ليلا ونهاراً حتى أثناء الدوام المدرسي. في أحد الأيام دخل معلّم الحساب على صفه وبدأ يفتش على الواجب المدرسي وإذا بموسى قد رسم له بيتاً كبيراً قام بتلوينه بدلاً من الواجب المدرسي، فلما رأى الأستاذ ما رأى أخذ منه دفتره وقام بتمزيقه ثم رماه في سلة المهملات، وتندر عليه قائلاً: القصور لأصحابها يا ولد.
دخلناها شباباً وخرجنا منها شياباً
بدأ موسى يكبر وحلمه يكبر معه، وصار يعمل ليلاً نهاراً ويجمع المال إلى أن اختار موقعاً مناسباً في سفح جبل من جبال الشوف وأخذ يحضّر لبناء قصرين اثنين يربطهما ممر، يرد بالأول على فتاته الصغيرة، أما الثاني فيرد به على معلم الحساب. بدأ موسى البناء فيهما معاً واضعاً فيهما كل خبرته فكان قبل أن يبني الحجر يكتب عليه قولاً يحبه أو يرسم عليه رسماً يعجبه وكان أفضل ما كتب على الباب الخارجي: “دخلناها شباباً وخرجنا منها شياباً”. سُمّي الناس هذين القصرين معاً بقلعة موسى.
بدأنا نصعد جبال الشوف وإذ بالسولار يتسرب من مؤخرة الباص، ثم امتدت رائحته إلى داخل الباص حتى أصبحت غير محتملة. توقف السائق على يمين الطريق ليرى الخلل الذي حدث في الباص، وإذا بأحد خراطيم الماتور قد تلف، والسولار بدأ يتدفق منه على الأرض. نزلنا من الباص حتى يتم إصلاحه أو استبداله ليبدأ الدليل السياحي عقد صفقات وهمية على الهاتف كي يحضر لنا باصاً آخر ينقلنا إلى بيروت، وأبلغنا بأن أي باص آخر يأتي لحملنا إلى بيروت يحتاج إلى ساعة للوصول إلى المكان الذي نحن به، وامتص بذلك غضب الركاب، وبدأنا ننتظر قدوم الباص المنقذ.
استأجر أحد الشباب سيارة خاصة
لكن أحد الشباب لم يُطق صبراً لهذا الوضع، وطلب من الدليل أن يتصل له بالفندق ليؤكد له الحجز، ثم استأجر سيارة خاصة وذهب بها إلى الفندق في بيروت بعد أن اشترط عليه الدليل أن لا يدخل الفندق قبل منتصف النهار، حتى لا يدفع ثمن ليلة إضافية. وما هي إلا دقائق معدودة حتى لحق به شاب آخر، وبعد ذلك بدأ الغمز واللمز بين ركاب الباص وانقسم القوم قبل أن نصل بيروت بعد أن كنا متفقين، فمنهم من يرى في التكسي حلاً سريعاً وعملياً، رغم أنه مكلف، ومنهم من لا يمانع الانتظار حتى إصلاح الباص.
إبن صاحب الإستراحة بلباسه التقليدي
أما أنا فقد كنت مسروراً في داخلي لهذه الوقفة، ووجدت فيها فرصة سانحة كي أرى جبال الشوف وأهلها بعد أن شبعت عيناي بصور الأشجار العريقة والمياه الغزيرة المتدفقة من قمم الجبال العالية المغطاة بأشجار الأرز والصنوبر والكينا. نظرت حولي وإذا أنا أمر أمام استراحة مغلقة فجأة وفي لمح البصر ظهر رجل يرتدي لباسه الأسود وطاقيتة البيضاء في منتصف العمر ومعه زوجته وابنه الصغير سمعته وهو يطلب من زوجته بأن تساعده على فتح الاستراحة بسرعة بعد أن رأى باصنا متعطلاً بجانب استراحته. تشارك مع زوجته وفتحا أبواب الاستراحة وأحضر الماء وبدأ يرش به الأرض لوأد الغبار الناتج عن مرور السيارات.
الأزرق منا ولسنا نحن من الأزرق
ذهبت إلى إستراحته فوجدته إنساناً عادياً بسيطاً وزوجته أبسط منه سألتني زوجته من أين أنتم؟ فقلت لها: من الأردن فقالت: هل أنتم من الأزرق؟ فأجبتها أن الأزرق منا ولسنا نحن منه. فهمت الرسالة رغم بساطتها فقالت: أهلاً بكم في لبنان. وفي هذه اللحظة حضر باقي الركاب وجلسوا في الاستراحة ينتظرون، وبعد أن قدّمت مضيفتنا تفاحة لكل منا انشغلت مع زوجها والدليل بإحضار من يستطيع أن يصلح له الباص وقام باتصالاته وأحضر المصلح وبدأنا ننتظر.
بندورة بعلية
وفي هذه الأثناء طلبت امرأة من ركاب الرحلة من زوجة مالك الاستراحة أن تقطف التفاح والعنب والتين والخوخ بيديها عن أشجارها فوافقت على الفور، ونزلت معها إلى البستان وعادت المرأة بسلتها مملوءة من الفواكه الطازجة، أما أنا فرأيت عندهم ما افتقدته منذ خمسين سنة: البندورة البعلية الجبلية المفلطحة فاشتريت منها وبدأت في أكلها على الفور وأخذت أستعيد ذكريات الماضي الذي لن يعود.
لفت انتباهي الحس التجاري عند أهل الشوف
لفت انتباهي الحس التجاري عند أهل جبال الشوف فإذا كنت زائراً لهم ولا تريد الشراء فهم يرغمونك عليه بتنوع بضاعتهم، فعندهم المشروبات الساخنة والباردة وعندهم الفواكه والخضار الطازجة المتنوعة وعندهم الأكلات الشعبية اللذيذة الخفيفة النظيفة ويغرونك بطريقة عرضها، وإذا لم يغرِك كل هذا وذاك فهم يغرونك بالكلمة الحلوة الطيبة وإذا لم تحرك ساكناً ولم تشتر يُضيّفونك فتكون من المشترين.
وبعد أن سار الباص مسافة لا بأس بها في الأراضي اللبنانية وقف فجأة أمام استراحة كبيرة في سهل البقاع، مكونة من ثلاثة طوابق تقع على الشارع الرئيسي مباشرة، وما أن نزلنا من الباص حتى استقبلنا رجل كبير في السن له لحية دنيوية إن شئت ودينية إذا أردت، وشكله يوحي بأنه كان مغترباً في بلاد الله الواسعة قبل أن يفتتح محله هذا، ومن ثم عاد إلى بلده لبنان بعد أن ملّ الغربة وقسوتها فأقام هذا المشروع ليعتاش منه.
وقام صاحب الإستراحة بتجهيز طاولة خاصة بالدليل
تقدم هذا الرجل وصافح الدليل السياحي وكأنه ينتظره وناداه باسمه وسأله على الفور عن أحوال والده الذي لم يرَه منذ مدة، فقال له الدليل: لقد تقاعد والدي من هذه المهنة الشاقة وسلمني الراية، فأحضرت معي زوجتي وولدي كي يتمتعوا برؤية الجمال في لبنان، ومعهم شخص ثالث أقوم بتدريبه على الدلالة منذ الآن. فما كان من صاحب الاستراحة إلا أن رحّب بالدليل وبمن معه من ضيوف وقام بتجهيز طاولة خاصة لهم، وأحضر كل ما لذّ وطاب من الأكل اللبناني مجاناً، ثم التفت إلى باقي المجموعة ليقدم خدماته لهم.
المناقيش اللبنانية الطازجة
أما أنا فقمت بجولة سريعة في هذه الاستراحة، فوجدت فيها مسجداً للرجال وآخر للنساء، وآيات من القرآن الكريم تغطي ما ظهر من جدرانها، وكان نصف هذه الاستراحة مطعماً والنصف الآخر سوبر ماركت، فأكلت المناقيش اللبنانية الطازجة وشربت كوباً من الشاي في الجزء الخاص بالمطعم، و بعد جولة سريعة في أنحاء المكان تحركت نحو الصندوق لأدفع ثمن ما أكلت، وأيضاً لأطلب شاحناً لجوالي.
وأعطاني شاحناً لموبايلي
وجدت صاحب المحل يعمل صرافاً بعد أن خيرني بأي العملات أريد أن أدفع، فاغتنمت هذه الفرصة كي أدير حواراً معه، فهو بالنسبة لي أول لبناني أراه على أرض لبنان، وطلبت منه شاحناً للموبايل فرحب الرجل بطلبي وأخذ الموبايل مني ووضعه بالشاحن وسألني: كيف فرغت بطاريته بهذه السرعة؟ قلت له: كنت أسمع به الإذاعات العربية المختلفة في الطريق، قال: إذن موبايلك صناعة صينية، فسألته: كيف عرفت ذلك؟ فقال: تلفون نوكيا الأصلي (وكان موبايلي نوكيا) ليس به إذاعات، فقلت له: ومنك نستفيد.
سهل البقاع
بعدها سألني هذا الرجل الطيب إن كنت قد رأيت لبنان قبل هذه المرة، فأجبته بالنفي وأن هذه أول مرة أدخل فيها الأراضي اللبنانية، فقال: أهلاً وسهلاً بك على أرض لبنان إذن ما عليك إلا أن تذهب إلى البلكون لتطل من هناك على سهل البقاع الذي لا بد وأنك سمعت عنه، فهو مشهور على مستوى الوطن العربي، وذهبت فوجدته سهلاً شاسعاً فيه الماء والأشجار بأنواعها وعلى الفور تذكرت التفاح اللبناني الذي يُصدّر للدول العربية وكذلك البطاطا اللبنانية الشهيرة.
حرّاس الحدود العربية ليس لهم علاقة بالشعارات القومية التي ترفعها حكومات دولهم في عواصمها، وليس مطلوباً منهم تطبيقها في مواقع اختصاصهم، فبعد أن هزموا العدو الصهيوني في البحر والبر والجو لم يبق أمامهم إلا أن يهزموه على أغلفة جوازات السفر للمسافرين الفلسطينيين علهم يجدونه، وقد يجدونه فيفرحون، أما عن ماذا يبحثون؟ هم يبحثون عن مادة صمغية على غلاف جواز السفر المطلوب فإذا وجدوها وجدوا ضالتهم فهذا يعني أن صاحب هذا الجواز قد زار فلسطين بغض النظر إن كان صاحب هذا الجواز طفلاً أو شيخاً أو عجوزاً أو حتى لو كانت إمرأة، وعلى صاحب هذا الجواز أن يعود إلى المكان الذي قدِم منه بغض النظر عن المعاناة والتكاليف المادية.
مدينة نابلس المتهمة بالزيارة
وعندما وصلنا نقطة الحدود السورية أخذ الدليل جوازات السفر للمجموعة وذهب بها إلى الموظف لختمها وقد ختمها جميعاً إلا جواز سيدة عجوز كانت معنا من مواليد مدينة نابلس فقد أصرّ هذا الموظف على أن تحضر هذه العجوز أمامه ليراها بعينيه وعندما حضرت قال لها: هل أنت من مدينة نابلس؟ قالت له: نعم قال لها: هل ذهبت إلى نابلس؟فتدخل زوجها وقال له: نحن نعيش في دبي ولم نذهب إلى نابلس، فقال لها الموظف: أنت كبيرة في السن والكذب حرام، اعترفي أنك كنت في نابلس وأسامحك ولم تعترف العجوز بما يريد واستمر الحوار بينهما إلى أن تدخل الدليل بطريقته الخاصة عندها سمح لها هذا الموظف بالدخول.
محطات إذاعية جديدة لم أسمعها في الأردن
انطلق الباص متجهاً إلى لبنان عبر الأراضي السورية وسلك طريقاً خارجياً دون أن يمر بالمدن السورية، ونام كل من هم في الباص بعد أن غنّوا وصفقوا ورقصوا على كل أغنياتنا العربية بأنواعها المختلفة دون أن يعلموا ماذا يغنون؟ وماذا يقولون؟ أما أنا ففتحت جهاز الراديو الموجود في جهاز الموبايل وبدأت أبحث عن محطات جديدة لم أكن أسمعها في الأردن، وبقيت هكذا إلى أن وصلنا نقطة الحدود السورية مع لبنان.
زرافات من العمال السوريين الذاهبين للعمل في لبنان
نزل الدليل ومعه جوازات السفر وإستيقظ من كان نائماً من ركاب الباص، ونزلت من الباص فوجدت زرافات من العمال السوريين الذاهبين إلى لبنان مشياً على الأقدام، وكان كل واحدٍ منهم يحمل أغراضه الشخصية على كتفه ومعه بطاقة الخروج المدفوعة الثمن لختمها ودخول لبنان، فتجولت بينهم وتفحصت وجوهم فوجدت الغربة وقسوتها والطموح والتغلب على المصاعب معجوناً بالسرعة، فالكل يريد أن يفوز بالمركز الأول في الخروج وحاولت أن أتكلم مع بعضهم فلم أفلح لأن الدليل كان قد ختم الجوازات وصعد الركاب إلى الباص من دوني وهم يطلبونني في الحال.
المصنع اللبناني
سار الباص مسافة لا بأس بها في أرض زراعية خالية من السكان بين سوريا ولبنان إلى أن وصلنا نقطة الحدود اللبنانية من جهة سوريا وهي بلدة المصنع، والتي كانت قرية زراعية صغيرة أرضها خصبة ومياهها وفيرة لكنها تحولت إلى مكاتب وشركات تخليص بضائع وتأمين وأصبح كل من في هذه القرية يعمل بالتجارة وتركوا الزراعة لأصحابها فالتجارة أسهل وأكثر دخلاً لهم.
صبية متسولة آخر موضة
وفي المصنع نزلت من الباص كي أتكلم مع الناس فلم أجد أحداً، فالكل مشغول عني غير صبية محجبة ترتدي ملابس ضيقة، بدأت تقترب مني وإذا بها متسولة، فأدهشني شكلها لأني أعلم أن حالة المتسولين في بلادنا مزرية ومع هذا أرفض أن أعطي أحداً منهم فكيف لي أن أعطي مثل هذه الصبية المتسولة وهي تبدو بهذه الرفاهية؟ هل للتسول في لبنان خصوصية تستدعي كل هذه الأناقة؟ لم أستطع الإجابة على السؤال إذ لم تكن إلا دقائق معدودة حتى استدعاني الدليل لركوب الباص فأخرجني من هذا الحوار الشخصي دون أن يدري.
وضع لهم السائق أغنية نحنا ما عنا بنات تتوظف بشهادتها
ما أن انطلق الباص حتى طلبت المجموعة من السائق أن يسمعهم أغنية من مسجلته فوضع لهم أغنية (نحنا ما عنا بنات تتوظف بشهادتها) بعد أن تأكد أنها سترضي الجميع، واتحد الجميع مع الجميع حتى بدوْا كأنهم فرقة واحد ترقص وتغني مع المطرب، ونسي كل من في الباص ثقافته وثقافة المكان الذي قدِم منه، ففي القرية مثلاً يُمنع على الرجل أن يغني مع زوجته، وها هو قد أصبح خارج قريته الآن ولا أحد يعرفه، فله أن يعمل ما لا يستطيع فعله هناك.
إذا إشتد وطيس الأغنية
والمرأة المحجبة عند أهلها وأقاربها وجيرانها لم تعد ترى أحداً منهم الآن، فلا مانع من أن تخفف حجابها أو تزيله بالكامل إذا اشتد وطيس الأغنية. والبنت التي تُمنع من السفر لوحدها تُحضر معها أمها العجوز كي يكون سفرها شرعياً. والزوجة التي تريد السفر وتمنعها التقاليد تأخذ معها زوجها العجوز الذي لا يستطيع صعود درجات الباص ليكون غطاءً لسفرها. والبنت التي يُمنع عنها التدخين في البيت تحضر معها أخاها الصغير وتدخن وتغني وترقص وتعمل ما تريد تحت غطاء أن أخاها يرافقها. أما إذا كانت زوجة فتحضر معها ابنها الأصغر كي يرافقها وتدخن الأرجيلة دون أن يحتج عليها أحد لأن ابنها معها.
اتفق كل العرب على زيارة لبنان، كلٌ لما ذهب إليه
انطلق الباص بكل هؤلاء إلى لبنان، وهكذا اتفق كل العرب على زيارة لبنان كلٌ لما ذهب إليه، لكننا قبل أن نصل إلى جابر، نقطة الحدود الأردنية، ظهر عطل فني في الباص لم يمنعه عن الحركة لكن السائق أصرّ على استكمال الرحلة حسب تعليمات إدارة الشركة. وعندما دخلنا نقطة الحدود الأردنية بدأ العطل يظهر للعيان وهناك اكتشفه نشامى الحدود الأردنية ومنعوه من الدخول، وأعادوه ثانية إلى الأردن وأجبروا السائق على أن يغيّر باصه إذا أراد الدخول إلى الحدود، وبهذا عدنا إلى أقرب استراحة أردنية من نقطة الحدود لننتظر الباص البديل بعد مشاورات أجراها السائق مع إدارة الشركة في عمان.
وانقسمنا إلى مجموعات صغيرة
هناك في الاستراحة تعارف الناس على بعضهم البعض، وكل شخص اختار من ركاب الباص وليفه، فانقسمنا إلى مجموعات صغيرة كل مجموعة لما هي ذاهبة له في لبنان، وبقينا على هذا الحال إلى أن حضر الباص الجديد بعد ساعتين على الأقل من خراب الباص الأول، عندها قمنا بنقل أغراضنا إلى الباص الجديد وانطلق الباص ثانية بعد أن توزّع الركاب من جديد حسب ميولهم وتجاذبهم لبعضهم البعض وواصلنا المسير إلى سوريا.