ثم صمتت برهة من الزمن وقالت:دعني من الكويت الآن بل حدثني أكثر عن حياتكم وأنتم ترزحون تحت نير الاحتلال الصهيوني؟وهل حياتكم الآن تشبه الحياة التي عاشها أهلي في الكويت أيام احتلالها وتحريرها أثناء وبعد حرب الخليج؟ وهل يختلف الإحتلال باختلاف أصحابه؟وهل أخرج اليهود أطفالكم من مدارسهم؟وهل بقيت مدارسكم مفتوحة للتعليم أم أغلق بعضها وحول البعض الآخر إلى معتقلات؟ وهل عندكم شوارع وسيارات؟وهل تأكلون وتشربون وتمشون في الأسواق؟وهل تصلون في المسجد الأقصى؟وهل تبتسمون وتضحكون وتتزوجون؟أريد أن أرى بنفسي ماذا فعل بكم هذا الاحتلال؟.
وبعد أن هدأت (هبة) قليلاً وبعد أن شربنا القهوة معاً أردت أن أختبر صدق ما كنت قد سمعته (وأنا صغير في السن) بأن الإنسان يُحب مسقط رأسه بغض النظر عن جمال هذا المكان الذي كان قد ولد فيه لا بل يحنّ إليه ويحب زيارته بين الحين والآخر إن لم نقل أنه يحب الإقامة فيه أحياناً لو إستطاع ذلك وقدر عليه فقلت لهبة:ما هو شعورك يا هبة وأنت تدخلين الكويت مسقط رأسك لأول مرة؟.
الأطلال
فقالت هبة وهي تتلعثم بلغتها العربية الركيكة:مسقط الرأس يا سيدي هو المكان الذي يحنّ إليه الإنسان إذا ما إمتزج بذكريات وردية جميلة في هذا المكان له ولمن كانوا يعيشون معه وحوله من الناس فحنين العرب لأطلالهم في الماضي لم يكن حباً بهذه الأطلال بل كان حباً للذكريات الجميلة التي كانوا قد قضوها مع الأهل والأحباب والأصدقاء والجيران في هذه الأمكنة أما أنا فكان مسقط رأسي هذا سبباً في شقائي وشقاء كل أهلي وأقاربي ومعارفي وأصدقائي وجيراني وحتى أبناء بلدي.
وبعد تقبل عزاء والدها في دولة الكويت رأت هبة وأمها أن تكمل الرحلة وتحضر إلى عمان لرؤية باقي الأقارب في عمان بعد أن أصبحت تملك إرادتها ولها أن تذهب إلى أي مكان في هذا العالم ترغب في الوصول إليه وذلك بعد أن تخلصت من عبودية وثيقتها المقدسة وعندما حضرت هبة وأمها إلى عمان سألت عنا واستطاعت الوصول إلى بيتنا ووصلتنا في الوقت الذي كنا نحضر فيه أنفسنا لزيارة فلسطين وعندما علمت هبة بذلك لم تصدق نفسها فكانت كطفل فقد أمه وسمع بوجودها فجأة لكن في مكان بعيد.
الحدود بين الجزائر والمغرب والحدود بين هولندا وبلجيكا
وفي أثناء تلك الرحلة وقبل أن تحط الطائرة على أرض مطار الكويت عادت الأم بذاكرتها إلى الوراء سنين ليست كثيرة عندما كانت فلسطينية الوثيقة وتخيلت نفسها وهي تمسك بوثيقتها المباركة وتطلب من حراس الحدود العربية الدخول إلى أراضيهم لزيارة الأقارب والأصدقاء وبسرعة طردت لا بل طاردت هذه الأفكار من مخيلتها وهي تخاطب نفسها وتقول: جزى الله أستراليا والأستراليين خيراً على ما فعلوه معي ومع غيري من المظلومين فقد أرجعوا لي هويتي الفلسطينية بعد أن سحبها مني العرب وأعطوني بدلاً منها وثيقة لا يعترف بها أحد حتى من أصدرها.
وبعد أن إنتهت حرب الخليج وتحررت الكويت على يد قوات التحالف أصبح وجودنا كفلسطينيين غير مرغوب به في الكويت فغادرنا إلى عمان وتركناهم في الكويت وتودعنا من غير أمل في لقاء لكنهم بعد أن حصلوا على الجواز الأسترالي وتخلصوا من وثيقتهم المقدسة امتلكوا حريتهم وإنسانيتهم وفتحت لهم كل الحدود العربية التي كانت مغلقة في وجوههم بما في ذلك الكويت وفلسطين وعندما توفي جد هبة لأمها المقيم في الكويت قررت الأم أن تذهب إلى هناك كي تشارك في تشييع جنازة والدها وعلى الفور ركبت الطائرة وأخذت هبة معها إلى أن حطت بها في مطار الكويت وهناك أعطيت الفيزا مباشرة دون سؤال وجواب لأن جواز سفرها غير عربي.
وسافرت هبة مع أهلها إلى أستراليا مهاجرة دون أن تعي سبباً لهجرتها تلك وعندما كبرت هبة في بلاد الغربة سألت من هم حولها: ماذا نحن هنا في آخر أرجاء هذه المعمورة مع أننا عرب أقحاح ومن بلد الإمام الشافعي أحد أئمة المسلمين الأربعة؟ فأجابها والدها: لسنا أول من ضاقت بهم بلادهم يا بنيتي ولن نكون آخرهم فالله طالب المظلومين والمضطهدين بالهجرة بل عاتبهم إذا استكانوا للظلم ولم يهاجروا حين قال في كتابه العزيز: ألم تكن أرض الله واسعة؟ هذا أولاً أما ثانياً ألم يهاجر صحابة الرسول العربي إلى الحبشة حيث وجدوا الدعم والمساندة كما وجدنا نحن من أستراليا المال والسكن بعد أن علمونا لغتهم وثقافتهم والأفضل من ذلك كله فقد أعطونا الجنسية الأسترالية وحررونا من وثيقتنا الغرّاء ولم يحشرونا في مخيمات كما فعل إخواننا العرب معنا.
وما أن سمعت حكومة أستراليا صراخهم رغم بعدها الجغرافي والتاريخي والديني عنهم حتى أسرعت لاستغاثتهم!وعلى الفور أوعزت لسفيرها في اليونان بالتدخل لإنقاذ أهل الوثيقة الفلسطينية (المحاصرين) في الكويت وقام هذا السفير من اليونان بتوجيه دعوة رسمية إلى إلى كل من يستطيع منهم الحضور لمقابلته لكن حكومة الكويت لم تسمح لأحد منهم بالمغادرة لتلبية دعوة السفير فجاء بنفسه إليهم وأخذ طلباتهم ووعدهم خيراً وبعد بضعة أيام وصلت الموافقة على إستضافتهم في أستراليا لضرورات إنسانية وهنا لا يسعني إلا أن أقول: ما أعظم هذه الكلمات عندما تخرج من أفواه الكفار وتغيب عن أفواه الذين يحاولون أن يقنعونا ليل نهار بأنهم خير أمة أخرجت للناس وبأنهم أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.
وعندما تأكدت حكومة الكويت في ذلك الوقت من أن أهل الوثيقة الفلسطينية باقون على أرضها أخذوا يتفننون في عذابهم والتنكيل بهم فمنعوهم من حق العمل وأهانوهم على الحواجز التي انتشرت على أرض الكويت وجعلوا حياتهم جحيماً لا تطاق وحملوهم وزر ما حصل لهم ولكويتهم من احتلال ولم ينفعهم حبهم ودفاعهم عن الكويت ولو نظرياً ولم تشفع لهم خدمتهم الطويلة في مهنة الرسل والأنبياء فأصبحوا يفضلون الجلوس في بيوتهم على الخروج منها لقضاء ما تبقى لهم من أهداف بعد أن اختصروها لهم بهدف واحد وهو حب البقاء على قيد الحياة لا أكثر ولا أقل حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا وأصبح البيت بالنسبة لهم هو المكان الوحيد الذي يحفظ عليهم كرامتهم وحياتهم وإنسانيتهم وبدؤوا يستغيثون ويصيحون عسى أن يسمعهم معتصم عربي لكن المعتصم العربي كان قد أغلق أذنيه كي لا يسمع استغاثتهم.
وفي سبعينات القرن الماضي كنت قد تزاملت مع والدها في إحدى المدارس الثانوية في الكويت فأصبحنا أصدقاء لكن ما كان يحيرني في ذلك الوقت هو حب أمها للكويت فهي لا تحب الكويت فقط بل تتعصب لها حتى أننا كنا نلحق إسمها بآل الصباح عندما كنا نريد مخاطبتها وكانت تدافع عن نفسها وتقول: أعذروني إن كنت قد تعصبت للكويت فأنا ولدت وعشت وتعلمت وعملت وتزوجت وأنجبت البنات والبنين في الكويت ولم أغادرها إلى أي بلد آخر.
منعوا حملة الوثائق من المغادرة لعدم وجود بلد يستضيفهم
أما ابنتها هبة فقد كانت قد ولدت في الكويت أيضاً قبل حرب الخليج بسنة واحدة وبعد حرب الخليج مباشرة خرج غير الكويتيين من الكويت إلى بلادهم طوعاً أو قسراً إلا من يحمل الوثيقة الفلسطينية فمنعوا من مغادرتها لا لسواد أعينهم ولا كرماً من الكويتيين وإنما لعدم وجود بلد عربي يقيمون فيه أو حتى يستضيفهم بشكل مؤقت حتى وصل بهم الأمر أن البلد الذي كان قد أصدر لهم وثيقتهم الغراء أقفل حدوده في وجوههم وهكذا وجدت هبة نفسها تحمل الوثيقة الفلسطينية المباركة ومسجونة بها في الكويت.
هـبـة طالبة جامعية فلسطينية الأصل تدرس العلوم السياسية في إحدى جامعات أستراليا وكانت قد ورثت الوثيقة الفلسطينية عن والدها الذي كان قد ورثها هو الآخر عن والده الذي وجد نفسه بين عشية وضحاها يعيش في قطاع غزة بدلاً من أن يعيش في بلده (بربرة) وهي لا تجيد اللغة العربية لكنها تحاول فتبدو كفراشة إنعكس عليها ضوء القمر في ليلة صيف أو كنحلة تبحث عن رحيق الأزهار لتصنع منه العسل فهي لا تكتفي بسماع من يتكلم معها بل تجدها مشغولة في مراقبة شفاه المتكلمين وحركاتهم بعيون سوداء واسعة تتسع لكل ما حولها.