
كانت أمي (رحمها الله) في صغري، تمنعني من اللعب، مع من هم أصغر مني سناً، وتنهاني عن مصاحبتهم أو الاحتكاك بهم، وكانت حُجّتها في ذلك الوقت تقول: أنك إذا صادقت مع من هم أصغر منك سناً، فإنك ستصغر في تصرفاتك، وفي سلوكك دون أن تدري، وستبقى صغيراً في تصرفاتك، بدلاً من أن تكبر، وكانت تتبع كلامها إليّ بالمقولة الشعبية التي كان الناس يرددونها كثيراً في تلك الأيام: رافق المسعد تسعد، وبعد أن كبرت في السن أكثر، اتخذت كلام أمي هذا منحى في حياتي، دون عناء أو تفكير، في كل من أصاحب.

كلمات أمي البسيطة هذه جعلتني أصاحب كل من هم أكبر مني سناً في جميع مراحل حياتي، لهذا فمن الأصحاب من مات، ومنهم من يحتضر، إلا صديق واحد، أطال الله في عمره، يكبرني بعشر سنين على الأقل، وعلى مبدأ: الشاطر هو من يتعلم من غيره، كنت ولا زلت أستمع له بين الحين والآخر، كي أستفيد من تجاربه في الحياة. لكن عيب صديقي هذا، أنه لا يتطوّع بنصحي وإرشادي، دون أن أطلب منه ذلك، ظناً منه أن العلم والخبرة، تُطلب ولا تُعطى، لكنه بالمقابل لا يبخل عليّ فيما لو سألته عن شيءٍ، كنت أجهله.

كبر أولادي الصغار، وتعلموا وتخرجوا، وعملوا وتزوجوا، ورزقوا بالبنين والبنات، واستقروا في بيوتهم في الخارج، وأخذ كل واحد منهم، يدعوني لزيارته في بيته الذي يسكنه، وأنا أرفض مثل هذه الزيارة، على مبدأ أنّ الشخص إذا كبر في السن، لن يسعه غير بيته. ومن أجل إقناعي بزيارتهم، استعانوا بنفوذ أمّهم، لعل وعسى أن أغيّر من موقفي الرّافض هذا، وألحّت عليّ زوجتي هي الأخرى، إلى أن استسلمتُ أخيراً، ووافقتُ من حيث المبدأً، وقبل إعطاء الموافقة الصريحة الواضحة، قررتُ أن أستشير صديقي هذا.

في تلك الأثناء، اتصل صديقي الذي حدثتكم عنه، وبعد السلام، عاتبته على إغلاق موبايله على مدي شهر كامل، فقال: أرجوك يا صديقي أن تعذرني، فقد كنتُ في زيارة مُفاجئة لأحد أولادي خارج البلاد، وكنتُ خلال هذه الفترة أشاهد اتصالاتك على موبايلي، لكن حرصاً مني على فاتورتك الشهرية، لم أجب على أيّ منها. وما أن دخلتُ سماء البلد، حتى وجدتني قد اتصلتُ بك على الفور، لأطمئنك عن أحوالي، وأطمئن عن أحوالك، فقلت: الحمد لله على سلامتك أولاً، أما ثانياً، فقد ألحّ عليّ أبنائي، كي أزورهم في بيوتهم، وأريد منك النصيحة، فأنت خير من يعينني على حسن التصرف، في مثل هذه المواقف المستجدة، فأرجوك أن تنصحني قبل أن أتورط في هذا الموضوع الذي أجهله.

قال: عليك إذا زرت أحد أولادك في بيته يا صديقي، أن لا تتحدث عن إخوته الآخرين أمامه أو أمام زوجته وأولاده؛ لأن كل العيون ستكون مفتوحة نحوك، وكل الآذان ستكون صاغية لما ستقوله عنهم، أو عن زوجاتهم أو عن أولادهم أو حتى عن بيوتهم أو
سياراتهم، فتهمة التحيّز والانحياز لك جاهزة، بل عليك أن تمدح من تزوره منهم وفقط. ولا تنس أن تمدح له زوجته وأولاده وبيته، وحتى سيارته أيضاً، فقلت
في منتصف سبعينات القرن الماضي كنت أعيش في دولة الكويت وكان لي صديق من أصول بدوية. تزوج صديقي هذا وذهب في رحلة شهر العسل مع عروسه إلى لبنان، وما أن دخلا الغرفة المحجوزة لهم في الفندق حتى خرجت زوجته للبلكون كي ترى المناظر الطبيعية الخلابة التي كانت قد أدهشتها، أما الزوج فقد فتح جهاز التلفاز الموجود في الغرفة، 




إن هذا الكف قد ذهب ألمه في نفس اليوم الذي وقع فيه، لكنه بالمقابل لا زال حتى يومنا هذا يؤلمني وقد يسأل سائل لماذا هذا الكف دون غيره؟ فأجيب لأن عدم القدرة على رفع الظلم عن النفس يؤلم أكثر من ألم الظلم نفسه، ومن أجل هذا الكف لم أذكر أنني قمت بضرب أي طالب من طلابي بعد أن أصبحت معلماً.








وفي اليوم التالي جاء المدرس الإمام إلى غرفة المُدير فلم يجده في مكتبه، فسألني عنه فقلت له: خيراً إن شاء الله؟ فقال: أريد منه تقريراً مفصلاً لما كان قد حدث معي بالأمس أثناء صلاة الاستسقاء، فسألته: وما فائدة تقرير المدير؟ فقال: أريد تقديم هذا التقرير إلى الضمان الاجتماعي كي أحصل منهم على تعويض إصابة العمل، فقلت له: احتسبها لله هذه المرة يا شيخنا، فقال لي: هذا شيء وذاك شيء آخر، وعلى المؤمن أن يبحث عن رزقه أينما يجده حتى لو كان هذا الرزق في الضمان الاجتماعي.















