
قبل صاحب الفرس بالأمر الواقع


في احدي قرى فلسطين ولد بعد أن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها ولم يولد كغيره على يد قابلة قانونية وكانت تسمى الداية بل ولدته أمه بينما كانت تحصد القمح مع زوجها في سفح أحد الجبال المُطلة على قريتهم بعد أن تقاسما العمل فيما بينهم حيث أخذ كل منهما مكانه في الحقل الجبلي الذي يتكوّن من قطع صغيرة من الأرض طولها أكبر كثيراً من عرضها حتى أن القطعة الواحدة لا تتسع للاثنين معاً فضرورات العمل تقتضي أن يكون كل واحد منهما في مكان وبعد ساعة من بدء العمل جاءها الطلق فلم تخبر زوجها بذلك بل تنحّت جانباً وولدت مولودها بكل سهولة ويسر لأنها لم تدلل جسمها في فترة الحمل.

كبر هذا المولود ودخل كتاب القرية وبعد أن تعلم القرآن والحساب واللغة العربية أراد والده أن يبعثه إلى المدينة كي يكمل تعليمه فيها لكن الولد كان قد فضل أن يشتري له والده فرساً لأنه عشق الأرض وأحبها وبقي وفيّاً لها فهي التي تطعمه إذا جاع وهي التي تعطيه المكانة الاجتماعية مثلها مثل التعليم فالرجل كان يُقاس بما يملك من الأرض المزروعة وهكذا كان وكانت الفرس التي اشتراها له والده فرساً أصيلة قوية وبعد أن تعودت عليه وتعوّد عليها وأصبح يحادثها إذا لم يجد من يُحدثه وكان يُحدثها عن أي شئ أحوال الطقس غداً وخطة العمل اليومية وعن الموسم القادم وعن كمية الأمطار التي نزلت هذا العام إلى أن أصبح كل منهما يفهم الآخر بدون كلام. 



واختارت بريطانيا العظمى المتعلمين من هذا الشعب واستعملتهم كتبة في وظائفها الحكومية فأخرجتهم من قراهم وسكنوا المدن وبهذا تكون قد فرغت القرى من متعلميها وأصبح من يتعلم في القرية يتركها ويذهب ليعيش في المدينة فخلقت بذلك واقعاً جديداً ففي المدن زاد عدد السكان وتغيرت تركيبة مجتمعاتها مما جعل البعض يتحرر فيها من كل التقاليد والأعراف التي كانت سائدة آنذاك أما في القرى فأصبح كل من يخالف العادات والتقاليد والأعراف يلجأ إلى المدن ليعيش فيها كما يريد.
لهذا فقد توسعت المدن على حساب القرى بعد أن خرج منها متعلموها وأصبحت هذه المدن بحاجة ماسة إلى وظائف خدماتية لسكانها فخرج من سكان القرى كل من لا يحب العمل بالأرض وسكنوا في أطراف هذه المدن كسباً للرزق مما جعل القرية الفلسطينية تتراجع إلى الوراء وتتقهقر وظهر فيها أناس مُحيّرون فلا هم يريدون العمل في الأرض ولا هم يريدون أن يعيشوا تحت صفيح المدن فانشغلوا في الناس وأشغلوا الناس بأنفسهم!.