وما أن عاد ليفكر ثانية لم تمهله أفعى كبيرة ذيلها على الأرض ورأسها في السماء وكأنها تبحث عنه فارتد مسرعاً إلى الوراء ثم تولى هارباً وعندما أخذ الليل يسدل أستاره بدأ يسمع أصواتاً لم يعتد على سماعها من قبل تصدر من حيوانات الليل وخفافيش الظلام عندها قرر أن ينام في أول مغارة يصلها وفي الصباح بدأ المسير هائماً على وجهه وصعد جبالاً شاهقة كان قد أخافه إرتفاعها الشاهق ونزل ودياناً ساحقة كان قد أرعبه إنخفاضها ومر بغابات كثيفة الأشجار أغصانها متشابكة فلم ير النور وهو بداخلها وتعرض إلى جميع أنواع الزواحف والحيوانات وحتى الطيور لم يسلم من إزعاجها!.
وبينما كان الحصان الأبيض منهمكاً في التفكير فيما سيفعله في اللحظة القادمة فاجئه ذئب صغير وأخذ يطارده من مكان إلى آخر حتى أنه لم يمهله كي يحاول هذا الحصان على الأقل أن يتذكر اتجاه القرية وكاد أن يستسلم له لولا تدخل ذئب أكبر منه حجماً إذ انقض على الذئب الأصغر ودخلا في عراك مع بعضهما فاستغل الحصان الأبيض صراع الذئبين معاً واستطاع الهروب منهما فكان هذا أول قرار يتخذه بنفسه وأول درس يتلقاه وحيداً فهو لم يكن يعلم بأن القوي هو من يستطيع أن يلاعب الأقوياء ويتعايش معهم لا أن يلعب مع الضعفاء ليستقوي عليهم!.
وفي أحد الأيام عاد القطيع إلى القرية لكن بدون حصانه الأبيض! فافتقده صاحبه وبحث عنه فلم يجده فأخرج موسه الكباس من جيبه وقام بفتحه ثم قرأ المعوذات ثم أقفله وأعاده ثانية لى جيبه ورجع إلى بيته آمناً مطمئناً فلن يفترسه أي حيوان بعد ذلك في تلك الليلة!(هكذا كان أهل القرية يعتقدون ويفعلون عندما يضيع حيواناً لأحدهم) وفي الصباح يخرج الجميع للبحث عنه فإذا لم يجدوه قالوا:هكذا شاء الله وما شاء الله فعل!.
صاحب الحصان
لكن صاحب الحصان في قرارة نفسه لم يقتنع بما حدث لحصانه!بل إتهمه بالتخاذل والتهرب من تحمل المسؤولية التي كانت قد ألقيت على كاهله مثله مثل الكثير من الناس في هذه الأيام فهم يحبونك إذا كانوا يريدون منك شيئاً ويعادونك عندما تريد أنت منهم الشئ نفسه!لكنه على الرغم من إعتقاده هذا استطاع أن يكظم غيظه وأن لا يبوح لأحد عن ما في نفسه خوفاً من أن تهتز صورة الحصان الأبيض في عيون أهل القرية فهم معجبون به لا بل يحسدون صاحبه عليه!.
قال الثعلب لأهل القرية:هل سمعتم بالمَرْج الأخضر؟فقال الجميع بصوت واحد:لا لم نسمع بهذا الإسم من قبل فقال لهم الثعلب:المرج الأخضر يا أصدقائي ليس بعيداً عنكم لكنه يحتاج إلى بنية تحتية وهذه البنية التحتية بحاجة ماسة إلى خيول قوية وأصيلة لتبنيها وشاع في القرية أن هناك مرجاً أخضراً لَيْس بَعيداً عنها من يدخله فَقَد دخل الجنة فسَمع الحِصَان الأَبْيَض ما قيل على لسان الثعلب عَن المَرْج الأَخْضَرِ فقرر أن يُسَافِر إِلَيْه سِرّاً بعد أن إتجهت إليه الأنظار كَي يُعِدّ لهؤلاء الأعداء مَا يَسْتَطِيع مِن قُوَّة وَمَن ربَاط الخَيْل وبهذا تَنْسَاه العيون التِي كانت تراقبه ليل نهار عَن قُرْب تارة وَعَن بُعْد تارة أخرى وما هِي إِلَا بِضْع سَنَوَات وَيَعُود بَعْدَهَا هذا الحصان بخيول عربية أَصِيلَة تَسْلُك الدَّرْب نفسه الذِي كانت قد سلكته أمه.
وجاء الثعلب (البريطاني) إلى القرية وهو يختال في ثياب (الواعظين) وطلب من سكان القرية أن يتجمعوا كي يسمع منهم بعضاً من مشاكلهم للمساعدة في حلها وبعد أَن إجتمعوا وسمع منهم قال:لم يعد العشب الأخضر يكفي لكل خيول هذه القرية لهذا لا بد من وضع حل يرضي الصديق قبل العدو!وعندما سألوا أهل القرية الثعلب عن هذا الحل الذي سيرضي الجميع قال:يجب علينا التخلص من كل الخيول (المشاغبة) وارسالها بعيداً عن القرية!وعلينا أن نوفر لمن يقبل المغادرة منهم الحياة المترفة هناك فيزداد وزنه ويترهل جسمه ويتغير لونه فيتحسن سلوكه.
بدأت الخيول تجهز نفسها للرحيل إلى أمركا!
فرد علبه أحد سكان القرية وقال:ها هي الخيول بدأت تجهز نفسها للرحيل إلى أمريكا الجنوبية قبل نصيحتك يا أبها الثعلب الناصح!فقال لهم الثعلب:كما تعلمون أيها السكان أنا صديقكم الوفيّ وكما تقولون في أمثالكم الشعبية(الصديق وقت الضيق) أنا لا أريد لخيولكم أن تذهب بعيداً عن وطنها الأصلي لأنها إن ذهبيت إلى هناك يصعب (السيطرة) عليها!فقال رجل آخر :وما هو حلك أيها الثعلب الصديق الصدوق لمشاكلنا؟.
وأصبحت كل العيون مفتوحة على هذا الحصان الأبيض فالناس تنتظر منه الكثير الكثير فهو إبن الشهيدة وعليه أن يواصل مشوار أمه ويكون مثلها مشروع شهادة في المستقبل والمختار أصبح يخاف عليه أن يسلك سلوك أمه ويسبب له الحرج مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء ومن أجل هذا بدأ المختار في مراقبة هذا الحصان الأبيض وتتبع خطاه أولاً بأول حتى أنه طلب منه في يوم من الأيام صراحة وبكل وضوح عدم إزعاج الجيران الأعداء وأية حادثة تحدث لهؤلاء الجيران سيكون هو أول المسؤولين عنها.
اختلف أهل القرية فيما بينهم على من الذي سيتكفل هذا الحصان الأبيض فالكل يريد منه أن يعيش وينام عنده في بيته فقد أصبح هذا الحصان الأبيض مباركاً عندهم لكنهم حلوا هذا الخلاف الذي ظهر بينهم قبل أن يستفحل هذا الخلاف بأن اتفقوا على أن يتركوا خيولهم بعد الإنتهاء من أعمالهم الزراعية لتتجمع وتشكل قطيعاً حُراً فِي بقية ساعات النهار أَما فِي المساء فيعود كل فرد من هذا القطيع إلى إقامته ويترك للحصان أن يختار المكان الذي يحب أن ينام فيه لكنه اختار أن ينام في بيت صاحبه.
واحتار صاحب الفرس في أمر حصانها الأبيض الصغير بعد وفاتها فهو لم يعد ملكاً له يتصرف يه كما يحلو له بل أصبح ملكاً لكل سكان القرية فهو إبن شهيدة قريتهم فالكل يرغب في أن يطعمه ويحترمه ويتمنى ملكيته أو على الأقل الإقامة في بيته فاتفق أهل القرية فيما بينهم أن يتركه صاحبه يلهو ويرتع مع خيول أهل القرية فوافق صاحب الحصان بعد أن أقنع نفسه قائلاً:ما هي إلا بضع سنوات ويسد هذا الحصان الفراغ الذي تركته أمه بعد أن يشتد عُوده!.
حزن صاحب الفرس على موت فرسه بالرغم من فتور العلاقة بينهما في الفترة الأخيرة لكنه مع هذا حفر لها حفرة كبيرة تتسع لها بالقرب من بيته بعد أن ساعده أهل القرية في حفرها ودفنوها فيها وغطوها بالتراب وقاموا بتحديد قبرها بحجارة أحضروها معهم لهذا الغرض وقرر أهل القرية مجتمعين أَن يبنوا حول قبرها قبة متواضعة لتصبح مزاراً لهم ولأولادهم من بعدهم وأفتى إمام المسجد بأنها ماتت شهيدة لأنها قاومت الأعداء في حياتها وعلى أهل القرية أن يكرموا حصانها لأن الله ورسوله أوصوا بأبناء الشهداء خيراً.
بهذه الكلمات تكون الفرس قد وسعت شقة الخلاف بينها وبين صاحبها بعد أن رفضت نقل حصته من المساعدات الخارجية فابتعد عنها صاحبها وعزف عن مساعدتها بعد أن أصيبت في رجلها ويدها وذنبها فهي لم تعد قادرة على الحركة لوحدها لهذا فقد تعودت حياة الكسل والراحة فما لبث أن هاجمها الذباب والحشرات التي لم تستطع طردها عن جسمها بعد أن قص الأعداء شعر ذيلها فهاجمها أحد الأمراض الفتاكة وأخذ القراد يمتص من دمها دون أن تستطيع مقاومته ودخل العلق في حلقها وأخذ هو الآخر يتغذى على دمها وتقرح جسمها وتدهورت صحتها لكنها أنجبت لصاحبها حصاناً أبيضاً قبل أن تموت!.