في صباح يوم الخامس من حزيران من سنة 1967 أوهم راكبوا الخيول العربية خيولهم بأنها ستشرب من مياه بحر يافا وبدأت هذه الخيول تستعد لهذا اليوم الموعود الذي كانوا قد انتظروه طويلاً وما هي إلا ستة أيام فقط حتى انكشف المستور فاستشهد من استشهد وأسر من أسر واستسلم من استسلم وفي هذه الأثناء علمت كل الخيول العربية هوية من كانوا يركبونها طيلة هذه السنين وتسببوا في نكستهم فرمتهم أرضاً والتقت مع بعضها البعض وأزالت خطوطاً حمراء كانت قد رسمت لها وأصبح خط الهدنة يسمى بالخط الأخضر وخرج الحمام المحبوس من أقفاص المخاتير ودخل حمام آخر وفتحت الحدود واجتمعت الخيول كلها فِي بيروت.
وأعلنت الأحصنة للعالم أجمع بأنها خلعت أرسنتها خوفاً من أن تقاد منها في يوم من الأيام ورمت أسرجتها خوفاً من أن تكون مطية لغيرها في أحد الأيام وسحبت ألجمتها من أفواهها لتقول ألسنتها ما تشاء وأدركت هذه الأحصنة الحقيقة التي مفادها أن عليهم وحدهم يقع إعادة الحق المغتصب إلى أصحابه وذلك بتحرير الأرض من العدو الصهيوني وبدؤوا يلملمون الجراح وبث روح الأمل والتفاؤل في خيول كسرها التشرد وأعياها الصمت وأضعفها اللجوء وكانوا بذلك قد نجحوا في جذب الأنظار إليهم والتف الناس حولهم باعتبارهم المخرج الوحيد من ثقافة الهزيمة التي كانت قد سادت في تلك الفترة!.
وكان كل ما يدور في مخيلة هذا الحصان الأبيض أنه الحصان الأصيل الوحيد الموجود في هذا المرج الأخضر في ذلك الوقت لكنه التقي بأحصنة أصيلة هي الأخرى كانت مطاردة مثله في بلادها جاءت من مختلف البلدان العربية ولها نفس الظروف ولها نفس الهموم ولها نفس الأهداف كانت قد سبقته إلى المرج الأخضر أو لحقت به وبعد أن وجدت هذه الأحصنة نفسها بعيدة عن مخاتيرها وبعيدة عن أعدائها تجمعت مع بعضها البعض وقررت فيما بينها أن تشكل من أنفسها قوافل متناوبة لإزعاج العدو المغتصب!.
وبينما كان الحصان الأبيض يسير هائماً على وجهه في الصحراء القاحلة وإذا بقطيع من الإبل كان قد تجمع حوله وسأله أحدهم:أنت يا هذا يا إبن الجبل ما الذي رماك في هذه الصحراء القاحلة؟فقال لهم الحصان الأبيض:أنا حصان مطارد في وطني كنت قد غادرته سراً والآن أبحث عن مكان آمن أعيش فيه إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي أعود فيه إلى بلدي عزيزاً مكرماً فقال له أحد هذه الجمال:أنا سأدلك على مكان آمن تقيم فيه أفضل لك ألف مرة مِن الإقامة في هذه الصحراء القاحلة.
أخذت الجمال منه سرجه
فقال له الحصان الأبيض:وما هو هذا المكان الذي تنوي أن تبعثني إليه؟فقال له الجمل:(المرج الأخضر) يا هذا بشرط أن تعطيني سرجك قبل أن تدخل إلى هذا المرج الأخضر فرد عليه الحصان الأبيض مُعاتباً وقال له:بالأمس كانت الطيور قد أخذت مني شعر ذيلي وأنتم اليوم تريدون مني سرجي فكيف لي أن أسير في هذا المرج الأخضر دون سرج يغطي بطني؟فردّ عليه الجمل قائلاً له:في المَرْج الأَخْضَر يا هذا لا تحتاج إلى سرج ولا حتى إلى ذيل فلا شتاء هناك يحتاج إلى سرج ولا ذباب يحتاج إلى ذنب فما كان أمام هذا الحصان إلا القبول والإذعان أمام مطالب هذه الحمال وأعطاهم سرجه وسار معهم إلى المرج الأخضر الموعود.
استمر الحصان الأبيض على هذا الحال، أياماً وليالي طوال، فنحل جسمه، وخارت قواه، وسقط جزء كبير من شعره، ولم يعد قادراً على مواصلة المسير، أكثر من ذلك، ولكن أين المفر؟سأل الحصان الأبيض نفسه بنفسه، ثم أجاب على سؤاله هذا حيث قال: سمعتهم، وأنا أعيش في القرية يقولون: إن في الحركة بركة، وفي الثبات الموت، وعليه فلا بد لي من مواصلة المسير، ولو إلى المجهول، وتابع الحصان الأبيض طريقه إلى المجهول.
وفي الصباح أيقظته شمس حارقة لم يألفها في حياته قط فنظر من حوله ليستوعب الوضع الجديد الذي وجد نفسه فيه فإذا بالنباتات من حوله أوراقها صغيرة إبرية يتخللها شوك حاد فأخذ يأكل الورق ولكن بحذر شديد وكان خلال ذلك ينظر بعيداً ليفتش له على بركة ماء ليشرب فرأى مثل هذه البركة ولكنه لم يستطع الوصول إليها فكان كلما اقترب منها ابتعدت عنه أكثر وحاول أن يسرع في خطاه فلم يستطع لأن أرجله كانت قد أعدت للسير في الجبال وليس لرمل الصحراء ونطر حوله مرة أخرى فوجد قطرات من الندى على أوراق النباتات فاكتفى بلعقها لتبقيه على قيد الحياة!.
أخافه هذا المنظر الذي رآه ففر منه هارباً وأثناء هروبه وإذا بحبل مشدود يمسكه رجلان متقابلان يلامس جسم هذا الحصان وما أن لامس الحبل جسم الحصان حتى تحركا هذان الرجلان معاً كل منهما في عكس اتجاه الآخر فصنعوا بذلك دائرة مركزها الحصان واقتربا من بعضهما البعض أكثر وقاما بتصغير نصف قطر هذه الدائرة حتى لامس الجبل رجليه ويديه فوقع أرضاً وجاء رجل ثالث وأدخل رسناً جاهزاً في رأسه ولجاماً في فمه وسرجاً من سروج حميرهم على ظهره وركبه بعد أن لسعه عدة ضربات على مؤخرته بعصاة أعدها خصيصاً للضرب المؤلم قام بسلخها عن ساق شجرة رمان!.
من لا يستطيع الوصول إليه عن قرب يفتح نافذته ويصيح عليه من بعيد:لاجئ … لاجئ!
عندما رأى الناس حصاناً يسير من غير ذنب تعجبوا من ذلك واندهشوا من هذا المنظر فكانوا يتجمعون من حوله وأصبح هذا الحصان محط أنظار الجميع الصغير قبل الكبير والمرأة قبل الرجل وفي الحال أطلقوا عليه إسماً جديداً لم يسمعه من قبل وسموه (الحصان اللاجئ) وأخذوا يستهزئون منه ويتندرون عليه في كل مكان يذهب إليه حتى أنهم كانوا يقفون على جوانب الطرق التي كان الحصان يسير عليها ويصيحون في وجهه قائلين:لاجئ … لاجئ … لاجئ فيجيبهم في داخل نفسه دون أن يسمعه أحد ويقول:إن كنت أنا حصاناً لاجئاً فأنا لست بكافر!وأصبح من لا يستطيع الوصول إليه عن قرب يفتح نافذته ويصيح عليه من بعيد:لاجئ … لاجئ!.
وجد الحصان الأبيض نفسه في الضفة الأخرى من النهر وفوق ظهره تحط طيور يسمى الواحد منها (أبو حمار) وهذا النوع من هذه الطيور تحب الوقوف على ظهور الخيل والحمير لا لشئ بل لتأخذ من شعر ذيولها وشعر رؤوسها شعيرات طويلة كي تستخدمها فراشاً ناعماً في بطون أَعْشَاشها فما كان منه إلا أن حرك ذيله يميناً ويساراً كما كان يفعل كعادته قبل خروجه من قريته لكن هذه الطيور لم تحرك ساكناً وبقيت تسير على ظهره من رأسه إلى ذيله ولم يستطع هذا الحصان بذيله أن يهش هذه الطيور عن ظهره.
وخلعت الطيور كل الشعر الموجود على ذنبه
وكان هذا الحصان كلما اقترب بذنبه من إحدى هذه الطيور التي تقف على ظهره كان هذا الطير يأخذ من ذنبه شعرة واحدة بمنقاره ويطير بها إلى عشه ثم يعود ثانية ومعه سرب آخر من هذه الطيور تحط جميعها فوق ظهره ليأخذ كل طائر منها بمنقاره ما يستطيع حمله من شعر ذيله وبقيت هذه الطيور على هذا الحال إلى أن أجهزت على ذنبه بالكامل وخلعت بذلك جميع الشعر الموجود على ذيله إلى أن أصبح الحصان الأبيض من غير ذنب.
وبينما كان هذا الحصان الأبيض يسير على غير هدى فاجئه نهر لم ير مثله في حياته قط لكنه تذكر الوادي الموجود في القرية عندما كان يدخله صاحبه إلى منتصفه ويقوم بتنظيف جسمه في مياهه مما كان يعلق به من غبار وأوحال فحاول الدخول إلى هذا النهر فكاد الماء أن يسحبه فخاف وعاد إلى الوراء وجرب مرة أخرى فلم ينجح فسار بمحاذاة هذا النهر عله يستطيع أن يقطعه من مكان آخر وظل يسير إلى أن وصل مكاناً اتسع فيه النهر ونحول إلى جداول صغيرة فقطع كل جدول على حدة إلى أن أتم قطع هذا النهر.