
قد يستغرب الكثير منكم (وخاصة الذين كانوا قد ولدوا وعاشوا في المدن أو في المنافي) كتاباتي عن الطابون وقد يقول البعض الآخر (ولو بينه وبين نفسه): لماذا يكتب لنا هذا الرجل عن شئ مضى ولا يمكن له أن يعود؟وإلى كل هؤلاء أقول: إنني حتى هذه اللحظة لا زلت أتذكر جيداً عندما تمكن والدي من بناء جدران الطابون في بيتنا وبقي عليه سقفه وقرر أن لا يسقفه بالخشب كغيره من الطوابين بل قرر أن يكون سقفه (عقد) مثله مثل سقف البيت الذي كنا نعيش فيه نظراً لأهميته عند الرجال والنساء والأولاد في ذلك الوقت.

فما كان منه إلا أن أخبر أهل القرية بذلك فلبوا جميعهم النداء وحضروا لمساعدته في تلك المهمة وتولى عمي المرحوم عبدالقادر عبود دور المْعَلّم والناس من حوله تساعده على آداء مهمته وكان بعد أن يضرب (الشوباش) ليحمس الجميع بأهازيج يبتدعها من عنده ومن جملة ما كان يقول: أعطوا المعلم ما طلب أعطوه غزة مع حلب والناس تردد ما كان يقول وبعد أن إنتهوا من مهمتهم هذه أولم لهم والدي وأكرمهم مقابل ذلك ومن هنا نفهم أهمية الطابون في ذلك الوقت.

وكان أقدم وأشهر طابون في القرية هو طابون (العمشة) الذي كان يقع في أقصى الطرف الشمالي من البيادر أما صاحبة هذا الطابون الذي سمي باسمها فهي والدة المرحوم سعيد محمد حمد ويليه في الأهمية طابون دار الأمين أبو زاهر وما يميز هذا الطابون عن غيره هو أنه طابق ثاني أي أنه يقع على سطح بيت الأمين القديم وبالتالي كان له إطلالة رائعة تجذب النساء للجلوس في داخله في فصل الشتاء والجلوس حوله في فصل الصيف وقد أزيل هذا الطابون من الوجود للأسف الشديد مع العلم أن وجوده لا يضر ولا ينفع.

ثم يليه في الأهمية طابون (دار أبو الحاج علي) الذي لا زال قائماً حتى يومنا هذا وكان سقفه عقد كالبيوت تماماً ثم يليه في الأهمية كل من الطوابين التالية وكانت قد إندثرت جميعها: (طابون دار أبو خالد) و (طابون دار عيسى الموسى) و (طابون دار محمد أبو قاسم) و (طابون دار إشحادة القاسم) و (طابون دار حسن العمر) و (طابون دار الحاج عبدالله) و (طابون دار حسين العبود) و (طابون دار عبدالقادر العبود) و (طابون دار إبراهيم الزغلول).

ولمن لا يعرف أهمية الطابون في القرية الفلسطينية عليه أن يعرف أن الطابون في فلسطين يعتبر هوية وطن قبل أن يكون مكاناً لصنع الخبز ففيه كانت تجتمع النساء لإعداد الخبز والطعام المشوي بأنواعه المختلفة وفيه كانت تسرد الحكايات الوطنية والإجتماعية وفيه كان ينتظر الرجال الخبز الساخن على أحر من الجمر كي يتناولوه مع زيت الزيتون وفيه كان يجتمع المطاردون من قبل القوات الغازية لفلسطين على مر العصور وفيه كان الناس يدفنون الحطب الجاف في رماده ويتركوه نصف يوم وبعدها يخرجوه جمراً ملتهباً ليضعوا هذا الجمر في الكانون ويدخلون هذا الكانون في غرفهم لتعطيهم الدفء المطلوب في فصل الشتاء.

أما الطابون نفسه فهو عبارة عن قالب ترابي مفتوح من الأعلى يستخدم لصناعة الخبز بالدرجة الأولى وهو يتكون من تراب الحوّر بعد خلطه مع التبن و الماء وتعريضه لأشعة الشمس حتى يجف ثم يُطمر بعد ذلك بالرماد والزبل بعد تغطية هذا الطابون بغطاء حديدي خاص ويوضع بداخله حجارة مكوّرة ملساء يطلق عليها إسم الرضف ويوقد عليه النار حتى يصبح بدرجة حرارة كافية لإنضاج العجين وينبغي المحافظة على درجة الحراة هذه باستمرار من خلال إضافة الزبل يومياً فوق هذا الطابون وعندما يكثر السكن من حوله يخرجونه ويضعونه حول الأشجار كسماد لها.

وليكن معلوماً لدى الجميع أن إدارة الطابون في القرية الفلسطينية هي من مهمات المرأة وبناتها فقط ولا دخل للرجل أو أولاده فيه وهي ليست مهمة سهلة بسيطة كما قد يتخيلها البعض منكم بل على العكس تماماً لها متطلبات والتزامات لا تستطيع أي إمرأة في القرية أن تفي بمتطلباتها ومن أهم هذه المتطلبات أن يكون موقع هذا الطابون بعيداً عن البيت المسكون لأن ما يصدره من دخان في الليل أو في النهار كفيل بإزعاج سكانه وقد يؤدي إلى خنق أصحابه لهذا فليس كل البيوت في القرية لها فناء واسع.
