
البوق، لمن لا يعرفه، وعاء أجوف من الداخل، يضيق في بدايته ويتسع عند نهايته، وقد يستقيم أو يتعرج أو يلتوي ويتقوس ما بين بدايته ونهايته. وفي جميع هذه الحالات يكون أجوفاً من الداخل. استفاد الإنسان من هذا التجويف واستخدمه في حياته اليومية منذ القدم لتقوية الصوت، سواء كان هذا الصوت المراد تسميعه للناس خيراً أم شراً، واستخدمه كذلك لتوسيع دائرة من يسمعه حين يتكلم سواء كان كلامه حقاً أو باطلاً.

أما أنا فكان أول عهدي بالبوق عندما رأيته محمولاً على شجرة البُطم الفلسطيني البرية فهذه الشجرة تحمل مع ما تحمل من ثمار وأوراق قروناً تكون على شكل أبواق مختلفة الأشكال والأحجام، فكنت أقطع قرناً أجوفاً من قرون هذه الشجرة وأتكلم في أحد طرفيه فيخرج صوتي من الطرف الآخر أعلى مما هو عليه، فيسمعه البعيد عني. أما إذا ثقبت هذا القرن عدة ثقوب ونفخت به فكان يخرج الهواء من الطرف الآخر على شكل موسيقى.

لم أكن أعلم في ذلك الوقت بأن ما كنت ألعب به صغيراً يسمى البوق وعندما كبرت أكثر رأيت هذا البوق أول مرة مع الإسرائيليين عندما احتلوا ما تبقى من بلادي فلسطين عام 1967، فكانوا يستخدمونه في بث الرعب والخوف في قلوب أهل القرى والمدن والبلدات الفلسطينية كي يخيفوا أهلها ويجبروهم على الرحيل عن أرضهم، وليقولوا للعالم بعد ذلك أنها أرض خالية من السكان. ولم أكن أعلم كذلك بأن هذا البوق سيكون في يوم من الأيام أداة الاتصال الوحيدة بين الأهل والأقارب والجيران في شطري الجولان السوري المحتل، عندما تُفرق الحواجز العسكرية الصهيونية بين بيوت العوائل في نفس القرية.

وعندما كبرت أكثر فأكثر رأيت هذا البوق مع أفراد الجيش الأمريكي عندما احتل أرض العراق، فكانوا يستخدمونه في بث الفرقة بين طوائف الشعب العراقي كي تشعر كل طائفة أنها بحاجة إليهم أمام الطوائف الأخرى. وبعد ذلك اقتبست حكوماتنا العربية نفس الدور من الأمريكان والإسرائيليين لا ليخيفوا اليهود والأمريكان كما أخافوهم من قبل بل استخدموه في بث الرعب والخوف بين شعوبهم ومواطنيهم كي يبقوا حكاماً إلى الأبد، ونسوا أو تناسوا أن هذه الشعوب قد تدربت على هذه الأبواق في أيام الاحتلال ولم تعد تخاف أبواقهم بعد أن نفخوها في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ولم تفلح في تخويف الشعوب.

وعندما كبرت أكثر وأكثر رأيت الرجل البوق، وهو الذي يهذي بما لا يدري بسبب أو بدون سبب، وهو الذي دائماً يقول “حاضر سيدي” وهو الذي ينعق بما لا يسمع. ومثل هؤلاء الرجال في مجتمعاتنا تشبه هذا البوق فهم يريدون الوصول إلى أهدافهم الصغيرة دون أن يبذلوا الجهد الكافي فيجعلون من أنفسهم أبواقاً لغيرهم تطوعاً ودون تكليف من أحد، فتمييز الرجل البوق بين الناس سهل فهو يسمع ما يريد سماعه فقط، ويغلق أذنيه عن الذي لا يريد أن يسمعه، ويرى ما يريد رؤيته ويغلق عينيه عن الأشياء التي لا يريد رؤيتها، فهو لا يملك الإرادة فيما يسمع أو يرى فقد أعفى نفسه من متعة التفكير فيما يرى وفيما يسمع فهو لا يفكر ولا يريد أن يفكر والرجل البوق لا يقتصر وجوده على مهنة معينة دون غيرها بل لكل مهنة أصبح لها أبواقها.
