
إنتقل إلى رحمته تعالى أحد معارفي فذهبت لأداء واجب العزاء، وبعد أن أديت مراسم العزاء المعتادة لأهل المتوفي في مثل هذه المناسبات، جلست على أحد المقاعد وبعد دقائق معدودة حضر أحد معارفي من المقيمين على أرض الوطن المحتل فلسطين، ليجلس على يميني وما هي إلا بضعة دقائق حتى تلاه صديق له يقيم في المهجر وبعد أن قدم مراسم العزاء هو الآخر جاء وجلس على يساري، فأصبحت أنا بينهم: نقطة حدودية تفصل بين المواطن والمهاجر.

وما أن رأى كل منهما الآخر حتى دخلا في حفلة ترحيب وتبويس وعناق من فوقي استمرت لدقائق معدودة، بعدها جلس كل واحد منهما على كرسيه وبدأ يسأل الآخر عن أحواله الشخصية وعن صحته وصحة أولاده، وتفرع الحديث بينهما إلى أن انتهى إلى حوار شيق امتد حتى وصل إلى حد لم أستطع تحمله وحدي فرأيت أن أعرضه عليكم كي تحكموا بالعدل بين هذا المواطن وهذا المهاجر بعد أن اختلفا في وجهات النظر.

المهاجر: ما هي أخبارك يا صديقي العزيز؟ والله من زمان ما شفتك، أعتقد أن آخر مرة شفتك فيها في بداية ستينات القرن الماضي عندما كنا شباباً نعيش على أرض الوطن وكنا وقتها في عز الشباب نقول للخبز (قبز). وبقينا على هذا الحال إلى أن جاءت حرب 1967 وفرقتنا في بلاد الله الواسعة، فلم نعد نعرف عن بعضنا بعضاً أية معلومات أو أية أخبار فأين ذهبت بك الدنيا يا صديقي بعد هذه الحرب اللعينة؟

المواطن:أنا يا صديقي غادرت أرض الوطن إلى دولة الكويت قبيل حرب 1967 بسنوات معدودة، وهناك وجدت عملاً مناسباً لي وهناك أيضاً كونت نفسي بنفسي، وبعدها تزوجت من امرأة فاضلة، ورزقت منها البنين والبنات، وبقيت في الكويت إلى أن جاءت حرب الخليج الثانية فأعادتني إلى أرض الوطن (مشكورة) بعد أن شبعت من حياة (الغربة) التي كنت قد عشتها بين هذين الحربين وأنت يا صديقي ماذا حدث معك وأين تقيم الآن؟

المهاجر: أنا يا صديقي العزيز، وبعد أن احتل اليهود الصهاينة أرض الضفة الغربية عام 1967، أصبح الشباب أمثالي يعملون في بناء المستوطنات اليهودية على أرضهم لحساب اليهود، فضقت ذرعاً مما كان يجري هناك ورفضت العمل معهم وغادرت أرض الوطن إلى الأردن وفيها اكتفيت ولم أهاجر كغيري من الناس بعيداً، بل كوّنت نفسي بنفسي، وبعد ذلك تزوجت امرأة من هنا ورُزقت منها البنين والبنات، وبقيت فيها إلى يومنا هذا ولن أغادرها إلى أي مكان آخر بإرادتي.

المواطن: طالما أنك عشت وتعيش الآن في مدينة عمان فلماذا لم تقم بزيارة بلدك أنت وأولادك؟ فأنا لم أراك في أرض الوطن ولا مرة كغيرك من الناس المقيمين في الخارج.
المهاجر: لا يا صديقي العزيز فأنا أقوم بزيارة الوطن بين الحين والآخر، ولم أنقطع عن زيارة بلدي لكنكم أنتم من تسكنون هناك تغيرتم وغيرتم من عاداتكم. ففي الماضي القريب كنت إذا وصلت إلى بيتي في بلدي وجدت كل الأهل والأقارب والأصدقاء في انتظاري في ذلك البيت، وبعد قليل من الوقت يلحق بهم كل أهل البلد، صغيرهم قبل كبيرهم للسلام عليّ. أما اليوم فأنتم تريدون من كل مقيم في خارج الوطن عندما يذهب لزيارة بلده أن يقوم هو بزيارتكم في بيوتكم والسلام عليكم.

المواطن: في الماضي يا سيدي كنتم تحضرون عندنا ضيوفاً، فكنا نستقبلكم على الرحب والسعة. أما اليوم فأنتم تأتون إلينا مقاسمين مطالبين بحصصكم من الأرض، بعد أن ارتفع سعرها، وأصبح الواحد فيكم يطلب حصة زوجته من أهلها، وحصة والدته من أهلها. ومنكم من طالب بحصة جدته وأنت تعلم يا صديقي أن الكبار في السن قد ماتوا وبقي بعدهم صغار السن الذين كانت الدنيا من حولهم قد تغيرت، وأظنك تعلم أن هؤلاء الناس تقدموا في حياتهم اليومية أكثر بكثير مما كان عليه الحال في زمانك، فخفّت العلاقة بينهم وأصبحوا يعتمدون على أنفسهم أكثر، ولا حاجة لهم بالآخر في حياتهم اليومية، وهم اليوم يعيشون عصر (العولمة) وهذا العصر لا يحتاج إلى (ناس) بقدر ما يحتاج إلى (فلوس).
