
كان في قديم الزمان بلد يُسمى لبنان، أحلم بزيارته مذ كنتُ صغيراً في السن؛لأنه كان قد احتضن الجامعة الأمريكية على أرضه عندما كانت تبدو حلماً كبيراً لمن أتيحت لهم فرصة التعليم في بلاد الشام كلها، فمنها تخرج القادة والمثقفون الأوائل ومن بعدها احتضن الجامعة اللبنانية التي ساهمت في نهضة الأمة. ولم ينس لبنان من فاتهم قطار التعليم في الوطن العربي كله فأنشأ لهم جامعة بيروت العربية التي أتاحت فرصة التعليم للجميع، وبهذا كان لبنان منارة للعلم وسكناً للعلماء والمتعلمين، ومن قبلها أنجب العباقرة أمثال جبران خليل جبران وفيروز وصباح ووديع الصافي ونجاح سلام والرحابنة وغيرهم الكثير.

والأهم من ذلك كله أن لبنان كان البيت الآمن لكل عربي ضاقت عليه بلاده أو نغّصت حكومته عليه حياته، وعليه فقد تواجد فيه الأنصار والمهاجرون وبنو قريظة وبنو قنيقاع وبنو أمية وبنو العباس والحواريون والفنيقيون والمُوحّدون والعلويّون والتقدميون والرجعيون والبعثيون والناصريون والفرس والروم والمغول والأيوبيون والمماليك واجتمع فيه الأرثدوكس والكاثوليك والأرمن والسريان والسنة والشيعة والأكراد والأتراك والفرنسيون.
والتقت فيه كل هذه الثقافات مجتمعة، وتعايشت مع بعضها البعض لتنتج ثقافة لبنانية جديدة عبّر عنها جبران خليل جبران بقوله: زاهداً فيما سيأتي ناسياً ما قد مضى، وبقوله أيضاً: إنما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء. ففي لبنان تستطيع أن تفعل ما تريد دون رقيب أو حسيب، وتستطيع أن تقول ما تفكر به وتفكر فيما تقول دون خوف ولا وجل، فيه من الحرية ما تتمناه بلادنا العربية مجتمعة. وفي لبنان أيضاً كبرت الثورات وفيه رقصت الغانيات وفيه الخلاف والاختلاف، وفيه الموت والحياة، وفيه السهول والوديان والجبال والهضاب.

عزّ على بعض الأخوة العرب أن يكون في أرضهم جنّة، وهم الذين ولدوا وعاشوا في الصحراء معزولين عن العالم يغزوا بعضهم بعضاً ويحركهم شيوخ القبائل كما يريدون، ويحددون لهم الأصدقاء والأعداء، فلا مصالح للعرب يدافعون عنها غير شيوخهم فهم سر بقائهم وما أن اكتشفوا لبنان وما فيه وجدوا حياة مختلفة عن حياتهم العادية فلم يتقنوا التعامل مع الحياة الجديدة، وفشلوا في هضمها لأن العربي بطبعه يقاوم كل جديد مما جعل لبنان عبئاً على كل العرب مجتمعين.

وسرعان ما اكتشف الأعداء ثقافة لبنان الجديدة فخافوا أن تتسع رقعتها ويشتد عودها لتشمل كل أجزاء الوطن العربي، وخافوا أن يستبدل العرب شيوخ قبائلهم بالديمقراطية، وعندها ستكون بداية النهاية بالنسبة لهم، وبهذا تكون قد التقت على أرضه مصالح الأعداء والأصدقاء فعاثوا فيه فساداً وعندما فشلوا في إطفاء شعلته قسّموا الأدوار بينهم فسلم العدوّ المُهمة لمن يستطيع ويقدر من العرب والمسلمين فنقلوا خلافاتهم القديمة والعقيمة إليه وزرعوها في أرضه، واستوطنت في أرضه الحروب والفتن.
