
كنا في منتصف القرن الماضي نعيش في القرية، وكانت حياتنا بدائية لا تحتاج منا إلى نفاق أو كذب أو رياء أو مداهنة لأحد، لأن مطالبنا كانت بسيطة ولأننا كنا نعتمد على أنفسنا في توفير سبل حياتنا، فنزرع عدسنا في أرضنا ولا نستورده من تركيا، ونزرع قمحنا بأيدينا ولا نشتريه من أمريكا، ونطحنه في مطاحننا البدائية ولا نستورده مطحوناً من أوروبا، وتعجنه لنا أمهاتنا قبل أن ينمن ليلاً، وعلى صياح الديك يصحوْن ليخبزنه لنا في الطوابين وحين نصحو من نومنا نأكله خبزاً طازجاً وساخناً.

وكان للحمار في حياتنا اليومية دورٌ مهمٌ إذ كان من لا يمتلك حماراً في ذلك الوقت يبقى بحاجة للناس. أما نحن فكنا من تلك الفئة التي لا تملك حماراً، فكنا كلما أردنا أن نطحن قمحنا لا بد لنا من أن نستعير حماراً من أحد الجيران أو الأقارب، وكان لنا جار قريب يملك حماراً ليس كالحمير في شيء فهو (بليد) أي بطيء الحركة كبير في السن لا يقوى على حمل نفسه وعلى الرغم من ذلك كنا نستعيره من صاحبه كي أحمّل عليه كيس القمح وأذهب به إلى الطاحون وخلال هذه الرحلة الشهرية التي كانت تستغرق مني اليوم كله كنت أتقاسم المعاناة مع هذا الحمار فلا أنا في عمر أستطيع به أن أحمل كيس القمح لو سقط عن ظهر الحمار، ولا الحمار قادر على حمل هذا الكيس بمفرده دون مساعدة مني.

وفي أحد الأيام مررت عن جارنا (صاحب الحمار) يجلس وحيداً فجلست معه وأخذ يحدثني عن أيام زمان، وفي هذه الأثناء وقبل أن ينهي جارنا حكايته اقترب منا رجل غريب وبعد أن سلّم هذا الرجل جلس معنا ثم سأل جارنا عن حمار للبيع وبدأ جارنا في مدح حماره أمامي وأمام هذا الرجل، فجعله حصاناً يطير في الهواء، فلم أطق صبراً على ما قاله صاحب الحمار عن حماره، وتدخلت على الفور ونفيت كلام جارنا نفياً قاطعاً، وأخرجت كل ما بداخل نفسي من حقد على هذا الحمار البليد.

بعد أن سمع الرجل الذي يريد أن يشتري الحمار كلامي استأذن وسار في طريقه، أما جارنا فظهر الغضب على وجهه ولم يكلمني بشيء، بل توجه فوراً إلى بيتنا عندها ساورني الشك في نفسي بأنني كنت قد أخطأت بحقه، فلحقت به إلى أن دخل إلى بيتنا ولم أدخل معه بل انتظرته في الخارج كي أتعرف بنفسي على ما اقترفه معه لساني، وعندما اقتربت من البيت أكثر سمعت جارنا وهو يعاتب أمي على ما كنت قد فعلته معه وخرج من بيتنا غاضباً مُهدداً بعدم إعارتنا الحمار مرة ثانية.

حدث كل هذا وأنا أستمع للحوار الذي دار بين أمي وجارنا دون أن يَرَوْني وما أن خرج جارنا حتى دخلت إلى بيتنا وعلى الفور استدعتني أمي وطلبت مني الجلوس، فجلست وقالت: ماذا فعلت مع جارنا يا ولدي؟ فقلت: لا شي فقالت: ألم تصف للرجل الغريب حماره؟قلت: بلى فقالت: ومن طلب منك ذلك؟قلت: لا أحد لكنني مطالب بقول الحقيقة قالت: حتى لو أحدثت هذه الحقيقة ضرراً بالآخرين؟ قلت: وما الضرر الذي وقع على جارنا من كلامي؟

قالت: جارنا هذا يا ولدي كان يودّ بيع حماره، أو قل التخلص منه، وأنت بقولك الحقيقة أبطلت هذه الصفقة دون أن تشعر، قلت: هل كذبت أنا في ما قلت عن حماره؟ قالت: لا أنت لم تكذب لكنك تبرعت في إعطاء معلومات مجانية أضرت بغيرك. يجب أن تعلم يا ولدي أن الناس كلهم يكذبون، وأن الكذب ملح الرجال في كل زمان ومكان، قلت: لكنهم علمونا في المدرسة أن الكذب حرام، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فكيف لي أن أسكت وأنا أسمع من هو يكذب أمامي؟ قالت: حساب الحقل يا ولدي ليس كحساب البيدر.

ما تتعلمه في المدرسة يا ولدي غير ما ستجده عند الناس في الشارع، وما تقرأه في الكتب لن تجده في الحياة العملية. غداً ستجد نفسك تعيش بين شياطين منهم الشيطان المتكلم الذي يُلبس الحق ثوب الباطل ويُلبس الباطل ثوب الحق، ومنهم الشيطان الأخرس الذي يرى ويسمع لكنه لا يتكلم حفاظاً على مصالحه الشخصية أو نفاقاً لإرضاء غيره. وعليك يا ولدي أن تجاري الناس في حياتهم فإذا جُنّ الناس من حولك فلن ينفعك عقلك، قلت: وكيف لي أن أنافق وأداهن وأجامل بعد أن تعلمت؟ قالت: ستكون حياتك صعبة شاقة يا ولدي، فلن يُحبك الناس على الرغم أنك تحب الناس جميعاً، وستكون يا ولدي (سويد وجه) عند بعض الناس لا بل أغلبهم.
