
كنت صغيرأ في السن عندما أجبرتني الظروف على أن أسافر من القرية التي كنت أسكن فيها إلى المدينة لأول مرة في حياتي لقضاء حاجة لي فيها وعندما صعدت درجات سلم الباص الأمامي ودخلت مقصورة الباص الأمامية وجدتها خالية من الركاب تماماً إلا من الكنترول الذي كان مشغولاً في تنظيف أرضية الباص من الداخل قبل حضور السائق وما أن هممت بالجلوس على أول كرسي وجدتها أمامي في الباص وإذا بالكنترول يصيح عليّ من بعيد ويقول لي:هذا الكرسي محجوز يا شاطر اتركه واجلس على غيره!فقلت له:أنا سمعتهم يقولون أن ركوب الباص بالدور!فقال لي:كلامك يا ولدي صحيح لكنه لا ينطبق على الجميع.

وعندما كبرت قليلاً ودخلت المدرسة حاولت الجلوس على أحد المقاعد الأمامية الأولى في الفصل فقالوا لي:إنها محجوزة وعليك أن تبحث عن غيرها في المقاعد الخلفية وعندما كبرت أكثر ودخلت الجامعة وجدت أن هناك مقاعد محجوزة لا يستطيع أمثالي الجلوس عليها وعندما كبرت أكثر وأردت الحصول على الوظيفة وجدت أن هناك الكثير من الوظائف محجوزة ولا يستطع أمثالي حتى التفكير فيها وعندما كبرت أكثر وأكثر ووقفت في الطوابير الكثيرة لقضاء حاجاتي اليومية وجدت هناك من هم يقفزون على دوري في هذه الطوابير وعندما أسير بسيارتي في الشارع هناك من يغير مسربه ويقف أمامي على الإشارة الضوئية.

ما رأيته في جميع مراحل حياتي المختلفة (وما زلت أراه حتى الآن) كان قد حيرني في الماضي (ولا زال يحيرني حتى الآن) فقلت في نفسي:دعني أراجع مفردات لغتنا العربية لعلي أجد فيها ما يحضنا أو يحثنا على الوقوف في الطابور والتزام الدور قبل أن أقوم بمراجعة تاريخ هذه الأمة فلم أجد للأسف في مفردات لغتنا العربية كلمة (طابور) فهي كلمة دخيلة علينا إستعرناها من اللغة التركية عندما كنا في عصر الخلافة العثمانية بعد ذلك قلت عليّ مراجعة تاريخ هذه الأمة لربما أننا كنا أمة منظمة يحترم القوي منا الضعيف وجاء الإستعمار وعلمنا الفوضى والإرتجال والقفز على دور الآخرين.

وغصت في التاريخ العربي القديم كي أبحث عن ثقافة الدور عند العرب فوجدت أن الأجداد الأوائل من بني يعرب وبني عدنان كانوا إذا إشتركوا في عين ماء كي يشربوا منها ويسقون دوابهم وأغنامهم كانت أول مادة في دستورهم تقول:ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدرأ وطينا أي أن الأقوياء هم من يشربون أولاً ويسقون دوابهم وأغنامهم ثم يأتي بعدهم الأقل قوة فيشربوا هم ودوابهم وأغنامهم وهكذا إلى أن يأت دور الضعفاء منهم فلن يجدوا ليشربوا غير الكدر والطين.

أما عندما ترد أغنامهم وإبلهم ودوابهم عين الماء فالقوي منهم هو من يسقي أغنامه وإبله ودوابه أولا ثم يأتي بعد ذلك دور الأقل منه قوة ويسقي … وهكذا وما أن يأت دور الضعيف منهم حتى يجد الماء قد نضب وفي أحسن الأحوال سوف يجده عكراً ممزوجاً في الطين والوحل وهذا ما كان يحصل مع بنات النبي شعيب وسيدنا موسى عليه السلام فكان لضعف بنات سيدنا شعيب وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الأقوياء عند سقي الأغنام فكان عليهما التأني والإنتظار حتى يسقي الأقوياء أغنامهم ويذهبوا فإن وجدتا في الحوض بقية من ماء كان ذلك سقيهما وإن لم ييجدا عطشت أغنامهما.

هذا عن الأجداد في أمتنا العربية أما الأحفاد فتتطوروا في كل شيء واستغنوا عن الأغنام وعيون الماء وتمكنوا من جر المياه إلى بيوتهم لكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير عندهم وأظنه لن يتغير هو ثقافة الدور التي ورثوها عن أجدادهم وأبقوها راسخة في عقولهم حتى الآن والتي تقول:إن الدور للأقوى فعلى سبيل المثال لا الحصر المواطن الخليجي في بلده له الأولية في كل شيء ولا يلتزم بالدور خاصة إذا كان الناس الذين يقفون معه غير خليجيين أما في غير بلاد الخليج فالذي يخرق الدور نجده دائماً يبرر فعلته بأنه مستعجل وأصبح هؤلاء المستعجلون يقومون بخرق الدور في الأماكن العامة دون رقيب أو حسيب أو رادع.

وبعد أن جاءت التكنولوجيا وفرضت نفسها على الجميع وأجبرت العرب على تنظيم الدور في مجتمعاتهم ألكترونياً جن جنون الأغنياء منهم فاحتاروا في كيفية القفز على دور غيرهم فأخذوا يفتشون في الطوابير عن أناس فقراء من حاملي الأرقام التي تسبق أرقامهم ليشتروها منهم مستغلين بذلك حاجتهم للمال فهؤلاء الأشخاص يمتازون عن غيرهم بعدم إحترام دور الآخرين وهم بالحقيقة لديهم القابلية للإعتداء على خصوصية الناس وهم بالعادة ينطلقون من نظرة إستعلائية فوقية يشعرون من خلالها بأنه يحق لهم ما لايحق لغيرهم وبأن الآخرين ليسوا مهمين بالنسبة لهم.
