
إحتج صاحبنا عليهم فقال: يجب علينا أن ننظم حوارنا ولا نفعل ما كنا نفعله ونحن من الأحياء فأنتم تذكرون جيداً أن الحوار عند الأحياء كان شجار ومع هذا فإن ما قاله ميتكم هو عين الصواب ولكنني سأزيد عليه قليلاً بأن سياراتهم اليوم هي التي تقرأ لهم دعاء الركوب وليسوا هم من يقرؤونه اندهش الحضور ولم يُصدق البعض منهم أن السيارة تتكلم وتقرأ القرآن فاضطر صاحبنا أن يحدثهم أكثر عن دعاء الركوب الذي لا زال عالقاً في ذاكرتهم فقال:

في أحد أيام صيف عام 1968 بينما كنت واقفاً على الشارع الرئيس أنتظر مرور سيارة أجرة تقلني من مدينة الزرقاء إلى العاصمة عمان وإذ بسيارة تحمل لوحة خليجية تقلّ رجلاً وزوجته تقف بجانبي ويقول لي سائقها: إذا كنت تقصد عمان يا أخي فتفضل واركب معنا تردّدتُ كثيراً لوجود زوجته معه لكنه فهم تردّدي هذا وألحّ عليّ بالركوب فركبتُ وجلستُ في المقعد الخلفيّ خلف زوجته مُباشرة وكان الجوّ صيفيّاً حارّاً ففتحتُ الشباك وأخرجت يدي منه بعد أن جعلت يدي على شكل زاوية رأس هذه الزاوية يقع خارج باب السيارة وضلعاها يقعان على الباب نفسه وانطلقت بنا السيارة مُتجهة إلى عمان.

في منتصف الطريق تقريباً وبينما كنت شارد الذهن أفكر فيما كان يشغلني في ذلك الوقت وإذ بزوجته تخرج أكبر بصقة من مخزون صدرها وبحركة عفوية لا إرادية أخرجت رأسها من الشبّاك وقذفت بها للخارج فحملها الريح واستقر بها على ذراعي الأيمن بعد أن رسمت بقعة كبيرة صفراء اللون على قميصي لكن زوجها كان لها بالمرصاد فقد رأى بأم عينيه ما فعلت زوجته في الحال أخذ يمين الطريق ثم وقف بسرعة جنونية وأخرج من سيارته كل ما معه من المناديل الورقية ودار حول سيارته نصف دورة كي يصلني وبدأ في تنظيف ما علق بقميصي من آثار العدوان وهو يعتذر ويتأسف وما أن عاد إلى مكانه أخذ يُعاتب زوجته على فعلتها تلك ويُفهمها بعضاً من أخلاقيات الركوب في السيارة أذكر ممّا قاله لها:

لا يكفي يا زوجتي العزيزة عند ركوب السيارة أن نقرأ دعاء الركوب عن ظهر قلب دون أن نتقيد بآدابه إن أصعب شئ على الإنسان أن يستعمل شيئاً لم يصنعه بنفسه فقد إستوردنا السيارة وإستخدمناها دون أن نتعلم أخلاقياتها فلا زال البعض منا يرمي بالمخلفات من الشبابيك ومنهم من يضع عصاه تحت كرسي سيارته تحسباً لأي مُشاجرة ينوي صنعها عندما لا يريد أن يتقيد بقوانين المرور.

بعد أن سمع الأموات هذه الحكاية علق أحدهم قائلاً: الله يساعد رجال أهل دنيا هذه الأيام على عيشتهم مع نسائهم فأنا أذكر أن الزوجة كانت تسير وراء زوجها دون أن تكلمه واحتج ميت آخر بجانبه وقال: المرأة هي التي تقود الرجل سواء كانت خلفه أم بجانبه وأكبر دليل على كلامي هذا وجودنا هنا من الأحياء الأموات فمن الذي أماتنا ونحن أحياء غيرهن؟ وقال آخر: خبرنا يا هذا عن مدارسكم في الدنيا؟ فهل لا زالت تخرج القادة والعلماء؟ وهل لا زال الآباء يطلبون من معلميي أبناءهم أن يأخذوا لحمهم ويتركوا لهم عظامهم؟.

لم يتمالك صاحبنا نفسه ودخل في نوبة هستيرية من الضحك وقال: هذه مفاهيم كانت سائدة لكنها أصبحت بائدة في هذه الأيام وعليك أن تعلم أن وزارة التربية منعت معلميها من ضرب طلابهم في مدارسها ومن منهم يضرب طالبه تعاقبه الوزارة أولاً وثانياً يرفع والده على هذا المدرس قضية في المخفر وينام ليلته في الزنزانة إذا لم يجد من يتكفله وقد يكون ضابط المخفر من طلابه وسمحت هذه الوزارة للوالد أن يضرب إبنه وللطلاب أن يضربوا بعضهم البعض في المدارس والجامعات ولو قدر لأحدكم أن يزور إحدى جامعاتنا لوجدها قد تحولت إلى ساحة حرب ولا تنسوا أن مدارسنا هذه الأيام أصبحت مختلطة.
