
بدأنا نصعد جبال الشوف وإذ بالسولار يتسرب من مؤخرة الباص، ثم امتدت رائحته إلى داخل الباص حتى أصبحت غير محتملة. توقف السائق على يمين الطريق ليرى الخلل الذي حدث في الباص، وإذا بأحد خراطيم الماتور قد تلف، والسولار بدأ يتدفق منه على الأرض. نزلنا من الباص حتى يتم إصلاحه أو استبداله ليبدأ الدليل السياحي عقد صفقات وهمية على الهاتف كي يحضر لنا باصاً آخر ينقلنا إلى بيروت، وأبلغنا بأن أي باص آخر يأتي لحملنا إلى بيروت يحتاج إلى ساعة للوصول إلى المكان الذي نحن به، وامتص بذلك غضب الركاب، وبدأنا ننتظر قدوم الباص المنقذ.

استأجر أحد الشباب سيارة خاصة
لكن أحد الشباب لم يُطق صبراً لهذا الوضع، وطلب من الدليل أن يتصل له بالفندق ليؤكد له الحجز، ثم استأجر سيارة خاصة وذهب بها إلى الفندق في بيروت بعد أن اشترط عليه الدليل أن لا يدخل الفندق قبل منتصف النهار، حتى لا يدفع ثمن ليلة إضافية. وما هي إلا دقائق معدودة حتى لحق به شاب آخر، وبعد ذلك بدأ الغمز واللمز بين ركاب الباص وانقسم القوم قبل أن نصل بيروت بعد أن كنا متفقين، فمنهم من يرى في التكسي حلاً سريعاً وعملياً، رغم أنه مكلف، ومنهم من لا يمانع الانتظار حتى إصلاح الباص.

أما أنا فقد كنت مسروراً في داخلي لهذه الوقفة، ووجدت فيها فرصة سانحة كي أرى جبال الشوف وأهلها بعد أن شبعت عيناي بصور الأشجار العريقة والمياه الغزيرة المتدفقة من قمم الجبال العالية المغطاة بأشجار الأرز والصنوبر والكينا. نظرت حولي وإذا أنا أمر أمام استراحة مغلقة فجأة وفي لمح البصر ظهر رجل يرتدي لباسه الأسود وطاقيتة البيضاء في منتصف العمر ومعه زوجته وابنه الصغير سمعته وهو يطلب من زوجته بأن تساعده على فتح الاستراحة بسرعة بعد أن رأى باصنا متعطلاً بجانب استراحته. تشارك مع زوجته وفتحا أبواب الاستراحة وأحضر الماء وبدأ يرش به الأرض لوأد الغبار الناتج عن مرور السيارات.

ذهبت إلى إستراحته فوجدته إنساناً عادياً بسيطاً وزوجته أبسط منه سألتني زوجته من أين أنتم؟ فقلت لها: من الأردن فقالت: هل أنتم من الأزرق؟ فأجبتها أن الأزرق منا ولسنا نحن منه. فهمت الرسالة رغم بساطتها فقالت: أهلاً بكم في لبنان. وفي هذه اللحظة حضر باقي الركاب وجلسوا في الاستراحة ينتظرون، وبعد أن قدّمت مضيفتنا تفاحة لكل منا انشغلت مع زوجها والدليل بإحضار من يستطيع أن يصلح له الباص وقام باتصالاته وأحضر المصلح وبدأنا ننتظر.

وفي هذه الأثناء طلبت امرأة من ركاب الرحلة من زوجة مالك الاستراحة أن تقطف التفاح والعنب والتين والخوخ بيديها عن أشجارها فوافقت على الفور، ونزلت معها إلى البستان وعادت المرأة بسلتها مملوءة من الفواكه الطازجة، أما أنا فرأيت عندهم ما افتقدته منذ خمسين سنة: البندورة البعلية الجبلية المفلطحة فاشتريت منها وبدأت في أكلها على الفور وأخذت أستعيد ذكريات الماضي الذي لن يعود.
