
على الرغم من أنني كنت قد عشت سنوات عمري الأخيرة على الأقل في مدن رئيسية كمدينة نابلس ثم مدينة الزرقاء إلا أنني عندما ذهبت إلى مدينة حلب مدينة القائد سيف الدولة الحمداني والشاعر أبو فراس الحمداني والشاعر أبو الطيب المتنبي وجدت في هذه المدينة العريقة الكثير مما لم أكن أعرفه أو أسمع عنه!لا بل إستطاعت هذه المدينة العريقة بحضارتها الموغلة في القدم أن تُغير الكثير من أفكاري ومعتقداتي!وتجعلني أقف مشدوهاً أمام قلعتها العظيمة وأسواقها القديمة والتنوع الموجود فيها وحب أهلها للغريب.

فكان أول ما لفت إنتباهي تلك الشعارات القومية المزروعة على أكتاف الطرق وأمام المدارس والجامعات ودوائر الدولة في كل أنحاء سوريا وليس في مدينة حلب وحدها فكان عدد هذه الشعارات أكثر من عدد أوراق الشجر الأخضر في مدن سوريا وكان من أهم هذه الشعارات التي لفتت نظري في ذلك الوقت كان شعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) ثم شعار (الأرض لمن يفلحها) وشعار (بترول العرب للعرب) وعندما قمت بقراءة كل هذه الشعارات إحترت أكثر وبدأت أتسائل بيني وبين نفسي:كيف هُزمت هذه الأمة وفيها مثل هذه الشعارات الخلابة؟.

واندهشت أكثر عندما رأيت أناس من كل الجنسيات العربية التي كنت أسمع صوتها بالراديو فقط وهي تمر من أمامي (بلحمها وشحمها) لا بل تعيش معي في الفندق فهنا في مدينة حلب رأيت المصري والتونسي والمغربي والسوداني والبحريني والعراقي والجزائري والليبي والسوري والأردني والفلسطيني كلهم أتوا من بلادهم إلى سوريا (قلب العروبة النابض على مر الأيام) لينهلوا منها العلم والثقافة لكنني فوجئت أكثر عندما إستمعت إلى همومهم ومشاكلهم فوجدتها نفس همومي ومشاكلي على الرغم من إختلاف الأوطان واللهجات.

كنت أفهم في الماضي أن سبب مشاكلي تكمن في احتلال بلدي فلسطين من قبل عدو ماكر لكنني اليوم كنت قد اكتشفت نوعاً جديداً من الاحتلال في كل بلادنا العربية في ذلك الوقت فكان في كل بلد عربي يستولي عليه قلة من الناس ويتربعون على الحكم فتصبح ثروات هذا البلد ملكاً لهم ولأولادهم من بعدهم وعلى الجميع أن يركعوا لهم ويكونوا من كلاب صيدهم ومن يمتنع عن ذلك فسيتهم بأنه عميل للإستعمار والإمبريالية العالمية أو أنه لا يرضى بحكم الله في الأرض بعد أن ولاهم الله على رعيته وأصبحوا ينطقون باسمه في الأرض وينفذون تعليماته فكانوا يهبون من استجاب لهم ويدخلونه جنتهم أما من عصى وتولى فكانوا يحكمون عليه ما حكم الله على إبليس فيخرجوه من ديارهم كما أخرج الله إبليس من الجنة بعد أن عصى وتكبر فيصبح بلا دنيا وبلا وطن.

وكل ما كنت أعلمه عن نفسي وعن غيري من الناس أننا كلنا مسلمون ومتساوون في الحقوق والواجبات كأسنان المشط هكذا قالوا لي لا بل أضافوا على مسامعي أيضاً أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى هكذا علموني وهكذا كنت قد تعلمت إلا أنني وجدت العكس تماماً وجدت الشيعة لا يعترفون بأن أم المؤمنين هي عائشة ولا يعترفون بالخلفاء الراشدين غير عليّ ويعتبرون أبي لؤلؤة المجوسي قاتل سيدنا عمر بن الخطاب من الأولياء الصالحين وعلمت أيضاً أن له مزار في إيران يزوره الناس ويتبركون منه.

واندهشت أكثر عندما رأيت في قلب مدينة حلب بالقرب من ساحة باب الفرج بيت للدعارة يقع في حي البحسيتة تعرض فيه المومسات أجسادهن للمارة وبجانب كل منها سعرها الذي يعتمد على عمرها وجمالها وسيجد من يريد المتعة من الرجال مطلبه حسب امكاناته المادية وفي أي وقت يشاء ويحرسها شرطي أو أكثر لمنع دخول صغار السن وبعد البحث والاستفسار وجدت أن هذا البيت يرجع تاريخه إلى العهد التركي وهو مصرح به من قبل الحكومات المتعاقبة والذي أدهشني أكثر أن هذه الحكومات المتعاقبة كانت تحجز هذا المكان عن العامة كل اثنين وخميس ليكون فقط لأفراد الجيش والقوات المسلحة فشفقت على من جارت عليه الأيام وسكن في هذا الحي.

اندهشت أكثر عندما رأيت أن كل من كان يسكن في حيّ الكلاسة هم من عبدة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر فكان كل معلم في هذا الحي يسمى باسم هذا القائد العظيم بشكل أو بآخر ابتداءاً من الشارع ومروراً بالمحلات التجارية والورش والدكاكين وانتهاءاً بالمسجد وأهل هذا الحي ناصريون حتى العظم فهم يقدسون الرئيس جمال عبد الناصر أكثر مما يقدسون الأولياء الصالحين بعد أن سئل ذات مرة عن حي الكلاسة فقال قولته المشهورة:الكلاسة وردة في كاسة.

واندهشت كذلك عندما رأيت وركبت الباص الكهربائي الترام الذي يصل ما بين مبنى البريد العام في ساحة عبدالله الجابري والقلعة بعد أن كنت قد قرأت عنه في كتبي المدرسية ولم أشاهده على أرض الواقع وأدهشني كذلك رؤية بعض المباني التي تحمل نجمة داود في حي الجميلية وفي حيّ باب الفرج وهذا يعني أن من كان يملك هذه المباني يهوداً كانوا قد تركوها ليحتلوا بدلاً منها فلسطين وفوجئت أكثر عندما علمت أن الصراف الذي كنت أتعامل معه في باب الفرج يهودي.

أدهشني كذلك لعب القمار في الشوارع ففي ساحة باب الفرج رأيت لأول مرة لاعبوا الكشتبان وهم يتصيدون الضحايا من الفلاحين السوريين ومن الأغراب عموماً أما لاعب الكشتبان هذا فكان يأتي بعدد من الفناجين المتماثلة ويقوم يقلبها جميعاً بعد أن يضع حجراً من الزهر تحت أحدها ويسأل المغفلين من حوله تحت أي الفناجين يقع الحجر؟.

ومن يعرف أين يقع هذا الحجر فله عشرة ليرات سورية ومن لا يعرف يدفع مثلها فيجيب أحد الواقفين حوله فيعطيه عشرة ليرات ثم يعيد اللعب من جديد على مبلغ أكبر ويعطيه مثله ثم يرفع قيمة هذا المبلغ أكثر إلى أن تأتي الضربة القاضية ويأخذ منه كل ما معه من فلوس وكان للأسف الشديد أحد زملائي ضحية لهذه اللعبة القذرة بعد أن أخذوا منه كل ما يملك مرة واحدة.

واندهشت أكثر عندما دخلت أحد المطاعم وطلبت صحناً من الفول وإذا به يحضر لي مع الفول ملعقة فهم لا يهرسون الفول مثلنا بل يأكلونه كما هو بعد سلقه وإضافة المقبلات عليه وطبق الفول في حلب مشهور جداً فعندما زار وزير الخارجية التركي أحمد أوغلو مدينة حلب وجلس أمام مائدة تضم جميع أنواع الأكل الحلبي الطيب بمطعم كثير النجوم وقبل أن يمد يده إلى الأكل قال لمضيفيه :لقد سمعت كثيراً عن فول أبو عبدو وأرغب بتذوقه ولم يتذوق أي طعام إلا بعد أن أحضر له مرافقوه صحناً من فول أبو عبدو الفوال.

والمقهى الذي كنت أعرفه أنا على الأقل في ذلك الوقت هو مكان يجلس بداخله الناس لشرب الشاي والقهوة ولعب الورق وتدخين الأرجيلة أما في مدينة حلب فهو مكان للحوار والمناقشة والمطالعة والكتابة فكان منتدى الشام قبل أن يتحول إلى مقهى جحا كان ملتقى المفكرين والأدباء والشعراء والأطباء والمحامين والفنانين والإعلاميين والتجار وكل عشاق مدينة حلب الشهباء وهذا المقهى يقع في الجهة الشرقية من ساحة سعد الله الجابري.

وفي مدينة حلب رأيت لأول مرة في حياتي حديقة عامة وهم يسمونها المشتل للناس أجمعين وكان فيها الخضرة والماء والوجه الحسن وأول مرة أرى فيها الأسر مجتمعة تأكل وتشرب وتلعب فالمشتل في مدينة حلب مكان جميل يجلس الناس فيه تحت الأشجار أو على مقاعد بين الورود والنوافير والتماثيل وهناك دكان صغير تشتري منه ما تريد والأهم من ذلك كله أنه لا يتدخل أحد في شؤون الآخر.

اندهشت أكثر عندما رأيت جميع أنواع المشروبات الروحية تباع في الدكاكين كسلعة عادية يشتريها من يريد وفي أي وقت يريد واندهشت أكثر عندما كنت أراهم يشربون هذا المشروب علانية في الشارع العام دون حياء أو خجل ولم أكن أتوقع في يوم من الأيام أن يصل الخمر إلى بيتي ففي أحد الأيام ذهب من أسكن معه في الغرفة في المدينة الجامعية إلى وسط البلد وعاد لي سكراناً يترنح ويتمايل في مشيته وقد ظننته مريضاً لأنه راجع كل ما في بطنه إلى أن حضر زميلنا الثالث وقال لي:ألا تشم رائحة العرق؟إن صاحبنا لسكران.

كنا في الأردن إذا تشاجر شخصان ومر عنهما شرطي أو حتى عسكري يفصل بينهما وإذا لم يفلح يأخذهم إلى المخفر وهناك يوجد من يتولى أمرهم أما هنا في مدينة حلب فالشرطي يمر بجانب المتشاجرين دون أن يتدخل بهم ودهشت كذلك عندما علمت أن سلاح الشاب الحلبي هو القندرجية أي السكين الذي يستعملها السكافي ويمسكها كستخدمها بحيث يظهر رأسها فقط ويهجم بها على خصمه ويبدأ في تجريحه في الأماكن المكشوفة من جسمه كي تبقى آثارها شاهدة على هزيمته من قبل خصمه إلى الأبد ودهشت أكثر عندما رأيت بأم عيني نشوب معركة بينهم في محطة الباصات فتذكرت صراع الديكة.

وكان مما أدهشني كذلك ما يتمتع به أهل حلب من مجاملات فيما بينهم فعندما وصلنا إلى مدينة حلب قادمين من دمشق وقبل نزولنا من السيارة انهال عليّ الركاب بالمصافحة قائلين لي: الحمد لله على السلامة وأكملوا السلام على بعضهم البعض ـ دون أن يكون بينهم سابق معرفة ـ مهنئين بسلامة الوصول وهذا الأمر لم أشاهده في حياتي السابقة لا في فلسطين ولا في الأردن وكم تمنيت في نفسي أن نتقن كشعب مثل هذا النوع من المجاملات.

واندهشت أكثر عندما كنت أتجول في أحياء مدينة حلب ليلة الخميس فكنت أرى الأقارب والأصقاء والجيران وهم مجتمعون في بيت أحدهم يغنون القدود الحلبية الشهيرة وعلى أنغامها يرقصون فرحين مستبشرين صغيرهم قبل كبيرهم نساؤهم قبل رجالهم أولادهم قبل بناتهم وبعدها يأكلون ويسهرون ويتسامرون وكنت أحسدهم على هذه التجمعات التي لم أشاهدها في مجتمعنا سواء كان في الأردن أو فلسطين فنحن لا نجتمع إلا في المناسبات وحتى إذا اجتمعنا نكون جديين أكثر من اللزوم.

أعجبت بالمرأة الحلبية أيضاً فهي مشهود لها في المطبخ من قبل الجميع فهي تعلق قلائد الفلفل الحار في البلكونات لتجفيفه واستخدامه في المأكولات الحلبية المختلفة والمرأة الحلبية تصرف الوقت الكثير والجهد الكبير في تحضير الكبة الحلبية المشهورة فقد كانت تدق اللحمة والبرغل في الهاون قبل اختراع الخلاط الكهربائي وكان له وقع موسيقي مميز لا يفهمه إلا من تذوقها وأعجبت أكثر في إدارة المرأة الحلبية لبيتها فهي تذهب يومياً إلى السوق وتشتري فقط 200 غرام لحمة وتفرمها وتطبخها مع الخضار المتواجدة في السوق خلال ذلك اليوم فيأكل الجميع لحمة على الدوام أما نحن فتستحي نساؤنا أن تشتري أقل من كيلو لحمة هذا إذا سمح لها بالذهاب إلى السوق.
