
بعد أن كُسرت يدي اليسار، وعلقت في رقبتي، أصبحت مثاراً للشفقة، لكل من كان يراني، لكنني كنت ألحظ أن شفقة الناس علينا كأسرة، بدأت تزداد أكثر من ذي قبل، حتى أنهم أصبحوا يشفقون على إخواني الصغار أيضاً، رغم أن أيديهم سليمة، وأصبحوا ينظرون إليّ من رأسي إلى أخمص قدمي، ولم يعودوا يكتفون بالنظر إلى يدي فقط، كما كانوا يفعلون سابقاً، وما لفت إنتباهي أكثر، أن الناس بدأت تصمت في وجودي، على الرغم أنهم كانوا قبل أن أنضم إليهم، يتحدثون ويمزحون ويضحكون مع بعضهم البعض، وانتشر بين الناس خبر يقول: إن الجيش الإسرائيلي أطلق النار على والدي، بعد أن قطع نهر الأردن، وهو في طريق عودته من الكويت إلى أرض الوطن.

عند ذلك، إنقسم الناس في أرائهم إلى قسمين: كل له رأيه، ووحهة نظره في هذه المسألة، فمثلاً القسم الأول كان يقول: بل يطلب من الناس أن يُعلِموا أهله بموته، الآن وليس غداً، كي يستطيعوا تدبير أنفسهم من بعده، لأن الأخبار السيئة تنتشر بين الناس أسرع من إنتشار النار في الهشيم، ومثل هذه الأخبار لا يمكن حجبها، أما القسم الثاني، فكان يقول: إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، حرام عليكم أن تبلغوا أهله، بهذا الخبر، قبل أن تتأكدوا من صحته.

دخلت البيت يوماً من الأيام على أمي، وإذا بها على غير عادتها، فشعرها كان منفوشاً، وملابسها ممزقة على جسمها، والدموع تتساقط من عينيها، كحبات البرد، وحولها عدد من النسوة يبكين معها، ويواسينها، فأخافني ما رأيت، وحاولت الخروج من البيت، وما أن رأتني أمي، حتى تقدمت نحوي، وضمتني إلى صدرها الحنون،وقالت: العمر لك، ولإخوتك يا بني، والدك انتقل من غربة الدنبا التي كان بها إلى غربة الآخرة، التي ليس لها نهاية هذه المرة.

وفي هذه الأثناء، سمع عمي والدتي وهي تبكي هي ومن تجمع عندها من نسوة، فحضر من بيته الملاصق لبيتنا، واتهم والدتي بأنها تُفاوِل على أخيه، فبالأمس حضر عنده شخص قادم من الضفة الشرقية، وأبلغه بأنه رآه في مدينة الزرقاء، بلحمه وشحمه، فلا داعي لهذا التجمع والبكاء الذي سيخيف الأولاد، ويرعبهم قبل أن نتأكد من صحة هذا الخبر، وطلب من النسوة الكف عن البكاء فوراً، وتابع كلامه قائلاً: من لا تستطيع أن تمنع نفسها عن البكاء، عليها مغادرة المكان في الحال، وعندما سمعت أمي كلام عمي، كفّت عن البكاء وقالت له: الله يسمع منك.
