المكان : الزرقاء
الزمان : 1992

بعد حرب الخليج مباشرة ارتفعت أسعار السيارات وانتعشت وكالاتها في الأردن ومن ضمنها وكالة سيارات لادا الروسية لأن سياراتها هي الأرخص في ذلك الوقت فزاد الطلب عليها وأصبح لزاماً على كل من يريد شراء سيارة أن يدفع ثمنها مقدماً وينتظر دوره عدة شهور أما سيارة اللادا فهي سيارة قوية قامت على أكتافها دولة عظمى وفوق ذلك جُرّبت في الخليج العربي ونجحت لا بل نافست غيرها من السيارات الأخرى على الرغم من انخفاض سعرها.

لكن وكيلها في الأردن آنذاك كان قد استغل حرب الخليج ورفع سعرها وطلب من المصنع أن يرسل له السيارة عارية ليقوم هو باستبدال ما يستطيع من قطعها الأصلية بقطع صينية تجارية فكله عند العرب صابون ولم يكتف بذلك بل وظف في شركته من هم بحاجة إلى العمل ممن قدموا من الكويت واستغل كثرتهم وخفض من رواتبهم بدلا من أن يزيدها وأصبح الموظفون غير راضين عن عملهم فيعملون أقل الأشياء المطلوبة منهم وبما أنني لا أعرف في السيارة إلا قيادتها فعليّ أن أشتري سيارة جديدة كي أرتاح من همّها وكانت اللادا أرخص السيارات الجديدة في ذلك الوقت فقمتُ بشرائها.

كنت قد درست في مدينة حلب وما تمتاز به حلب عن غيرها من المدن السورية وجود جالية أرمنية فيها وبعد أن تعاملتُ معهم وجدتهم يختلفون عنا بالصدق والوضوح في التعامل وبإتقان العمل بصمت دون ثرثرة على الرغم أن سعرهم أعلى من غيرهم لكنه محدود فلا مجال للمفاصلة عندهم فهم يُريحون ويرتاحون وفوق ذلك مواعيدهم دقيقة هذا هو الانطباع الذي خرجت به من مدينة حلب عن الأرمن.

أما سيارتي الجديدة فقد رسبت في أول فحص فني لها في دائرة السير وبدأت تتعطل فعرضت أمري على مدير المدرسة ومساعده حيث كان الأول يقتني سيارة لادا والثاني يقتني سيارة فيات كي أستفيد من خبرتهم في هذا المجال فقالوا لي: ما لك إلا آرتين نحن نتعامل معه من عشرات السنين وقد أثبت صدقه ومهارته ونصحوني أن أذهب إليه وأعرض عليه سيارتي ليشخص ما بها من عطل ثم يقوم بإصلاحه وبغير ذلك ستبقى المشكلة عندك موجودة لا بل ستبقى تتنقل من ميكانيكي إلى آخر ومدحوه لي للمرة الثانية فقلت لهم: بما أنه أرمنيّ حتماً سيكون جيداً لأنني كنت قد جربت الأرمن في مدينة حلب.

ذهبت إليه وعرّفته بنفسي وقلت له: بعثني إليك فلان وفلان فقال: لكن أنا مختص بالفيات واللادا هي نسخة عن الفيات فقطع غيارهما واحدة وبعد أن قام بفحص السيارة قال: سيارتك بحاجة إلى تنزيل ماتورها وإعادة تركيبه ثانية وأثناء هذه العملية ستظهر لنا القطعة المعيبة ونستبدلها لهذا لا أستطيع أن أعطيك سعراً محدّداً غير أجرتي فهي ثابتة وقام بضرب المبلغ في ثلاثة فقلت في نفسي: ليست الفلوس مشكلة أمام إتقان العمل ووافقت بعد أن تعهد لي بأن ينهي كل شئ خلال أسبوع وتركت له السيارة أمام محله وودعته مطمئناً.

وبدأت أنتظر موعده هذا على أحرّ من الجمر فقد تعطل الكثير من أعمالي في غياب السيارة وأصبحت أستعمل المواصلات التي لا تستطيع أن تؤدي جميع مصالحي وما أن حان الموعد المحدد بيننا حتى ذهبت إليه مُسرعاً وإذا بالسيارة كما تركتها لم يلمسها بيديه وعندما رآني أعطاني موعداً آخر مُتذرعاً بحجج واهية وبدأت أنتظر الموعد الآخر وعندما حان هذا الموعد ذهبت فوجدت السيارة على حالها أيضاً فقلت له: هل أرمن الأردن غير أرمن حلب؟ فقال: لا والله ولكنك لم تقل لي الحمد لله على سلامتك فقلت له: خيراً إن شاء الله فقال: بالأمس تدهورت شاحنة كبيرة وسقطت على محلي وكسرت باب المحل واستقرت بداخله فلو كانت سيارتك بالداخل لتحطمت وعليك أن تحمد الله على ذلك ولا تغضب فالله يُحبك أكثر مني.

وفعلا رأيت آثار الشاحنة والأضرار التي خلفتها في محله وعرفتُ عندئذ أنني وقعتُ في مصيدة فسيارتي عمرها أربع سنوات فقط فهل يُعقل أنها بحاجة إلى تنزيل ماتور؟ وتذكرتُ في الحال مثلاً شامياً لا أجرؤ أن أتلفظ بكلماته حرفياً لأنني أعارضه ولم أقتنع به لكنني في هذه الحالة قد بدأت أقتنع به فهم يقولون بما معناه: لا تشفق على المصاب كثيراً لأن الله يعلمه أكثر منك وقد عاقبه الله بما يستحق وذهبتُ في الموعد الثالث وإذا بالسيارة بين يديه ولم ينهيها فقلت له: لن أغادر هذا المكان إلا بها فانتهى منها الساعة التاسعة ليلا وعندها ركبت سيارتي وذهبت بها إلى البيت وفي الصباح حاولت تشغيلها فلم تشتغل لكنني عشقتها وشغلتها مراراً إلى أن أوصلتها له وقلت له: السيارة لا تعمل إلا بالدفش وعندما تشتغل ترتفع حرارتها إلى الخط الأحمر.

حاول آرتين إصلاحها فلم يستطع فعزى الأمر إلى عطل كهربائي ولبس ميكانيكي واستعان بجاره الكهربائي فاقترح هذا الكهربائي العبقري أن يركب لها مروحة إضافية خارجية مثل سيارات النقل الكبيرة ومن أين لنا بهذه المروحة العظيمة؟ قال: في الصباح نشتريها من محلات قطع الغيار فقلت له: والآن ما هو الحل؟ فتفتقت عبقريته في تلك اللحظة وأحضر لفة من الأسلاك وبدأ يربطها ويخرجها ويدخلها بين أجزاء الماتور إلى أن امتلأ الماتور أسلاكاً كحل مؤقت لها وذهبت بها إلى البيت بعد أن تأكدت أني وقعت في مصيدة ثانية للمرة الثانية ولكن هذه المرة مع جاره الكهربائي.

في الصباح أخذتها إلى كهربائي آخر وعندما سألني ما بها قلت له: ترتفع حرارتها لو اشتغلت فقال: افتح غطاء الماتور وفتحته فضحك وقال: من هو هذا العبقري الذي عدّل على تصميم الوكالة؟ وخلال دقائق خلع كل الأسلاك التي ركبها من سبقه ورماها وأعاد ماتور السيارة كما كان أولاً وأعاد لي السيارة أحس من الأول وسألته عن الأجرة فقال: أنا في الحقيقة لم أعمل في سيارتك شيئاً يستحق أجرة لكنني سآخذ منك دينار واحد عقاباً لك لأنك سمحت للجهلة أن يلعبون في سيارتك مرة أخرى إذا تعطلت سيارتك احضرها لي أو اتصل في تلفونيا سآتيك في الحال.
