المكان: الزرقاء
الزمان: 1/9/1991

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي طرح بنك الكويت الوطني شهادات إدخار تستحق الدفع بعد عشر سنوات من تاريخ شرائها فأعجبتني الفكرة وعلى الفور قمت بشراء كمية لا بأس بها من هذه الشهادات واستحقت أولى هذه الشهادات وأنا خارج الكويت فما هو الحل؟لحل هذه المشكلة إستصدرت وكالة لصديقي المقيم في الكويت بهذه الشهادات وعليّ أن أرسل هذه الوكالة له في البريد المستعجل كي يستطيع تحصيل قيمة هذه الشهادات تباعاً ويرسل لي قيمتها أولاً بأول فقد جاءت في وقتها المناسب وأنا أحوج ما يكون لها في تلك الأيام.

ولكي أطمأن على وصول هذه الوكالة ذهبت إلى مكتب البريد الذي هو في الطابق الأرضي من البناية التي أسكنها كي أتصل تلفونياً بصديقي الموجود في الكويت ولم تكن الاتصالات في ذلك الوقت متوفرة كما في هذه الأيام فوجدت مكتب البريد مُكتظاً بأمثالي ممن لهم مصالح لا زالت باقية على أرض الكويت ويريدون أن يطمأنوا عليها وحتى يصل دوري أحتاج على الأقل إلى ساعة من الزمن لكنني مضطر والمضطر يركب البحر كما يقولون فوقفت في الطابور كسائر الناس المنتظرين أمثالي.

وبعد أن رآني موظف البريد أقف بآخر الطابور وجدني صيداً سهلاً له لا أعرف لماذا؟فسألني:أين تسكن يا أستاذ؟فقلت له:أسكن في نفس هذه البناية فقال:رائع أنا أستطيع أن أحضر لك هاتفاً إلى بيتك خلال أسبوع من الآن وأعفيك من هذا الإنتظار المُمّل فقلت له مُستغرباً:أصحيح ما تقول به يا رجل؟فقال:ما عليك إلا أن تحضر لي عقد الإيجار ورسوم الهاتف وأنا كفيل بالباقي فأنتم الكويتيون (ويقصد القادمين من الكويت) طيبون ويجب علينا مساعدتكم لأنكم إخوان لنا في الحسب والنسب والدين وبالمقابل لا نريد منكم لا جزاءاً ولا شكورا.

قلت له:بارك الله فيك وكثّر الله من أمثالك لخدمة هذا الشعب المسكين فرد علي قائلاً:آمين يا رب العالمين ثم تابع قوله لي بشيء من الجدية:ولكيّ تطمئن يا أخي أكثر فأنا موظف حكومي كما ترى وجار لك في السكن وأصلي من البلدة (الفلانية) قضاء نابلس أكيد أنك تعرفها أو سمعت بها على الأقل أما والدي فهو شيخ هذه البلدة ويعرفه القاصي والداني.

وتابع قائلا:إطمئن يا أخي سيكون تلفونك يوم السبت القادم راكباً إذا سلمتني عقد الإيجار والرسوم غداً فقلت له:لماذا غداً بل الآن؟عندها تركت دوري في الطابور وذهبت إلى البيت مسرعاً وأحضرت له ما طلبه مني وعلى الفور سمح لي بالاتصال التلفوني مع صديقي فوراً قبل أن يأت دوري وبدأت أنتظر قدوم يوم السبت الموعود على أحر من الجمر وجهزت مكاناً خاصاً لجهاز الهاتف المنتظر في داخل البيت وأخيراً جاء اليوم الموعود وعندما وصلت البيت وفتحت الباب نظرت إلى المكان المعد للجهاز فلم أجده راكباً فنزلت مسرعاً إلى مكتبه في الطابق الأرضي.

عندما رآني قادماً من بعيد قام من مكانه مرحباً ومعتذراً عن الموعد المحدد فصديقه (الواسطة) كان قد مات والده وخجل أن يطلب منه مثل هذا الطلب في مثل هذا الوقت أيّدته فيما قال ووعدني إلى يوم السبت القادم وجاء يوم السبت ولم يركب الهاتف وفي هذه الأثناء ارتفعت رسوم تركيب الهاتف لكنه لم يطلب مني هذه الزيادة بل تعهد أن يدفع هذا الفرق من جيبه الخاص بعد أن حمل نفسه المسؤولية أدهشني هذا الموقف الذي ذكرني بالأولياء الصالحين السابقين.

في هذه الأثناء كنت قد وضعت صديقاً لي من المقيمين في الأردن في الصورة فأجابني بالحرف الواحد:مهما كانت واسطتك مهمة فلن تستطيع تركيب هاتف في هذه الأيام إن صاحبك (نصّاب) حاول أن تسترد فلوسك منه إن استطعت ولعب الفأر في عبي كما يقولون بعد أن جاء سبت وذهب سبت آخر ولم يركب الهاتف فذهبت إليه وقلت له:أعطني ما دفعته لك فأنا لا أريد هذا الهاتف العتيد فقال:إنتظرني إذن إلى آخر الشهر فعندما أقبض مرتبي أعطيك أكثر مما دفعت لي.

وانتظرت آخر الشهر وجاء آخر شهر آخر ولم يدفع عندها جن جنوني وتتطاير الشرر من عيوني وذهبت له إما قاتلا أو مقتولا وإذا به يقف خارج مبنى مكتب البريد ومعه صيد أثمن مني وعندما لمحني وأنا قادم إليه من بعيد حسبها جيداً فإذا لم يعطيني مبلغي البسيط سيطير منه مبلغاً أكبر منه بكثير كان يرسم له مع من يقف معه فاضطر أن يدفع لي مبلغي ليُظهر نفسه أمام هذا الرجل أنه على الحق يسير.

إنتظرت بعيداً عنهما وبعد أن إنتهى من الرجل الذي كان يقف معه لحقت بهذا الرجل بعد أن إعتبرته الضحية التالية وسألته عن مطلبه من هذا الموظف فقال لي:هذا الموظف وعدني أن يحضر لي لم شمل بـ 500 ديناراً نصفها مُقدماً وقد دفعتها له والنصف الآخر عند الإستلام فأنت تعرف مشكلتنا نحن القادمون من الكويت فلو صحّ كلامه واستطاع أن يدخلني إلى بلدي هناك سيخفف عني عبئ دفع الإيجارات السنوية للشقق التي أصبح إيجارها في العلالي كما تعلم فوضّحتُ له أن صاحبه نصّاب فقد نصب عليّ من قبله لكنه لم يقتنع مني لأن الغريق يتمسك في أي شئ حتى ولو كانت قشة.
