المكان : الزرقاء
الزمان : 1994

بعد حرب الخليج ضاقت عمّان بسكانها واستفحلت فيها أزمة السكن فأجبرتُ على دفع خلوّ مقداره 500 دينار أردني في شقة لأسكن فيها ضمن عمارة مشهورة في عوجان بالزرقاء وهذه العمارة لمن لا يعرفها من عجائب الدنيا السبع بعد الاعتذار من مدينة البتراء الخالدة فشققها لا تعد ولا تحصى بأحجام متنوعة وأنواع وأوضاع مختلفة وبأسعار متفاوتة.

فالشقق التي تطل على الشارع الرئيس منها له سعر إيجار يختلف عن سعر الشقق التي تطل على سكة الحديد وتحت الأرض المقامة عليها هذه العمارة مصانع ومخازن وفوق الأرض متاجر ومطاعم وبنك ومسجد وفرع للمؤسسة العسكرية ومكتب للبريد وفوق كل هذا شقق سكنية تقع في صفين متقابلين يفصلهما ممر فيه فتحات للتهوية وفي هذه العمارة أيضاً نصف دواوين قرى الضفة الغربية وسكانها من جميع الجنسيات والثقافات المختلفة فتخيل معي عزيزي القارئ عدد الناس الذين يدخلون ويخرجون ويسكنون في هذه البناية.

كان نصيبي منها شقة في الدور الثاني تطل على سكة الحديد وليس على الشارع العام ومن يسكن على الشارع الرئيس يتقيد بتعليمات البلدية في وضع مخلفاته في كيس ويقوم بتوصيله إلى حاوية الزبالة مكرهاً أما من يسكن في الشقق التي تطل على سكة الحديد فلا حسيب ولا رقيب عليهم حتى أنهم لا يشترون أكياساً للقمامة ولا يستخدمونها فهم يقومون برمي مخلفاتهم من الشبابيك توفيراً لثمن الأكياس أولاً وللجهد ثانياً وكأنهم يعتقدون بأن المهم أن تخرج القمامة من بيوتهم أما أين تذهب فلا يهمهم ذلك.

حضر مراقب النظافة في بلدية الزرقاء في أحد الأيام فوجد مكرهة صحية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى خلف هذه البناية فأنذر ونبّه كل من يسكن جهة سكة الحديد بعدم رمي فضلاتهم من الشبابيك والبلاكين لكن أحداً منهم لن يبالي بهذا الإنذار والتنبيه واستمروا في عملهم هذا دون حياء أو خجل مما جعل مراقب النظافة في البلدية يشكو أمر سكان هذه البناية للمحافظ الذي أمره بمخالفة كل من يسكن جهة السكة وأنا منهم.

ما أمر به المحافظ هو عقاب جماعي بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى وهذا العقاب الجماعي كنا قد ورثناه عن الوالي التركي والحاكم الانجليزي من بعده والحاكم الإسرائيلي في هذه الأيام فالعقاب الجماعي سهل على الحاكم صعب على السكان أما نحن فقد توسعنا كثيراً في استخدامه فاستخدمناه في مدارسنا عندما أخذ أساتذتنا ومدرائنا يستخدمون مثل هذا النوع من العقاب الجماعي في مدارسهم إلى أن أصبح هذا النوع من العقاب مألوفاً لدينا ولا يحتج عليه أحد مع أنه محرّم دينياً ودولياً.

وفي أحد الأيام ضُرب جرس الباب عندي فقمت على الفور بفتح الباب وإذا بمراقب النظافة في البلدية يطلب مني التوقيع على مخالفة تقول:أنا فلان الفلاني مراقب النظافة في بلدية الزرقاء رأيت المدعو جميل عبود بأم عيني يرمي بالقمامة من شباك منزله وعليه يُغرّم بعشرة دنانير على فعلته تلك!فقلت له بشيء من الاستهجان والغضب: هل رأيتني وأنا أرمي القمامة من الشبابيك؟قال:لا.

قلت له:وكيف تقبل على نفسك أن تكون شاهد زور في قضية ملفقة؟ عندها فقدت أعصابي ولم أستطع أن أتمالك نفسي فقمت بفتح الباب على مصراعيه أمامه قائلاً له:هل تتوقع أن من يسكن في مثل هذا البيت الذي تراه أمامك يمكن أن يرمي زبالته من الشبابيك؟أنظر إلى عدد سلات الزبالة فهي موجودة في كل مكان من بيتنا قال:والله أنني مقتنع مما تقول لكنني أنفذ أمر المحافظ وأنا عبد مأمور ليس إلا وإذا لم توقع وتدفع الغرامة ستذهب إلى المحكمة فقلت له:وليكن لكنني لن أوقع على عمل لم أعمله ولن أعمله وذهب الرجل وهو يكلم نفسه: أنت حر.

وبعد فترة من الزمن وإذا بموظف المحكمة قادم ومعه بلاغ يحدد فيه مكان وزمان الجلسة كبر الأمر عندي واعتبرتها إهانة لي كمعلم قبل أن تكون غرامة مالية أدفعها بغير وجه حق وأخذت أتسائل بيني وبين نفسي:ما هو موقفي أمام القاضي الذي سأقف أمامه غداً لو كان أحد طلابي السابقين؟ما هو موقفي غداً عندما يسألني أحد طلابي الذين أدرسهم الآن عن سبب غيابي عنهم بالأمس؟هل سأقول له الحقيقة أم أكذب عليهم؟وإذا علم أحدهم بأنني أرمي القمامة من الشبابيك ماذا سيقول عني؟ وماذا سأقول له غداً.

عرضت أمري على من هم حولي من مدرسين وأصدقاء كي أسترشد بآرائهم فالغربة كانت قد أنستني الكثير من مفاهيم وقيم أصبحت سائدة في مجتمعنا وأنا لا أعلمها فأجمعوا جميعاً دون استثناء على أننا كمجتمع تآلفنا مع هذا النوع من العقاب الجماعي وأصبحنا نطلبه نحن من الحاكم إذا نسيه يوماً وأصبح الموت عندنا مع الجماعة رحمة أما ما نتلوه يومياً في صلواتنا وما علمه لنا ديننا عندما قال تعالى:ولا تز وازرة وزر أخرى فنقرأه لتصحّ به صلواتنا فقط دون أن نعمل به!وتآلفنا أيضاً مع الظلم والظالمين ولم يعد في حياتنا أن الظلم ظلمات وكل ما نعمله للظالمين الدعاء عليهم بعد كل صلاة بعدها نظهر أنفسنا لأنفسنا بأننا على الصراط المستقيم سائرون.

وقال أحد زملائي:إنك يا صديقي قد ضخمت الموضوع أكثر من اللزوم والأمر عادياً جداً وأبسط مما تتصور اذهب إلى المحكمة في موعدها وعندما يسألك القاضي:هل أنت مذنب؟فقل له:نعم سيدي وتدفع العشرة دنانير وتنتهي المشكلة أما إذا قلت غير مذنب فستدخل في متاهات المحاكم وستدفع هذه الغرامة مضاعفة أولاً وأخيراً فهل أنت جديد على مفاهيم مجتمعنا وكأنك نسيتها بعد غيابك الطويل عن بلدك؟وهذا أول عربوناً ستدفعه ثمناً للغربة.

أما خوفك على موقفك أمام طلابك فلا مبرر له فقد تعوّد مجتمعنا على إهانة المدرس وجرح كرامته حتى أن المدرس نفسه اعتاد هو الآخر على هذه النظرة الدونية له من قبل المجتمع ولم يعد عنده من كرامة ليدافع عنها فما لجرح بميت إيلام إنك تعيش اليوم بفكر الأمس عندما غادرت بلدك لقد اختلف الكثير مما كان سائداً في تلك الأيام فالمعلم اليوم هو الذي أصبح يخاف من تلميذه بعد أن عمل جرسوناً في المطاعم بعد دوامه في المدرسة ليقدم الأكل إلى الطالب وأهله فيشير الولد إليه ويقول لوالده:بابا هذا أستاذي في المدرسة فيخرج الأب من جيبه بعض الدراهم ويعطيه مقابل تنظيف الطاولة له ولولده وليس لأنه يعلم ابنه.

لم أقتنع في كل ما قاله لي زملائي لكنني في الحال تذكرت ما كانت قالته لي أمي رحمها الله يوماً وأنا طفل صغير في السن:يا ولدي خذ عني إذا جن الناس فلن ينفعك عقلك وذهبت في الحال إلى مبنى محكمة بلدية الزرقاء وكان هذا اليوم مشهود في حياتي فأنا لم أر قاضياً حتى الآن وعندما رأيته سألني دون مقدمات:هل أنت مذنب؟فقلت له:نعم سيدي فقال:إذهب إلى الصندوق وادفع عشرة دنانير غرامة ودفعتها فوراً.
