المكان : مطار الكويت القديم والجديد
الزمان : 15/8/1973 إلى 15/8/1991

دخلت الكويت من مطارها (القديم) قادماً من مطار دمشق في يوم (15/8/1973) بعد أن حصلت على بكالوريوس في الرياضيات من جامعة حلب،وتشاء الصُدف أن أخرج من مطارها (الجديد) في يوم (15/8/1991) وبهذا أكون قد قضيت فيها (18) سنة بالتمام والكمال!لكن شتان ما بين الدخول والخروج!ففي الدخول كنت بعزيمة الشباب،واستقبلتني الكويت وحدها دون أن يكون أحد من أهلي في مطارها،لأنني وصلتها على قائمة الإنتظار،وليس على قائمة الحجز المسبق،فكانت هي الأهل عندما غاب الأهل!.

وما أن فُتح باب الطائرة وخرجت منها ولامس وجهي الهواء الساخن شعرت وكأنني صُفعت كفّاً على وجهي من شدة حرارة الجو،وشدة الرطوبة التي لم أكن أعرفها قبل ذلك،رغم أن الوقت كان ليلاً،وعندما نزلت من الطائرة لم أكن أعلم عن أهلي شيئاً غير رقم هاتفهم فقط!وحاولت أن أتصل بأهلي فلم أفلح،لأن جهاز الهاتف في ذلك الوقت لا يعمل إلا إذا وضع بداخله قطعة معدنية من فئة (20) فلساً،وأنا لا أملك فلوساً كويتية تجعلني أُشغّل مثل هذا الهاتف!.

فذهبت إلى مكان تجمع المُستقبلين وسألتهم عن قطعة معدنية تمكنني من الإتصال بأهلي؟وفتحت قبضة يدي،وما هي إلا ثوانٍ حتى إمتلأت قطعاً صغيرة!إستعملت واحدة منها،وأطبقت قبضة يدي بحركة لا إرادية على ما تبقى معي من فلوس،دون أن أعلم عن قيمتها شيئاً!وعندما حضر أخي الأكبر وأخبرته بما حدث،وأعطيته ما بقي في قبضتي من قطع معدنية،فعدّها فوجدها تقارب الدينار!فضحك وقال لي:تصلح يا أخي العزيز أن تكون شحاداً!كيف تأخذ من الناس كل هذا المبلغ،وأنت بحاجة إلى قطعة واحدة فقط؟فقلت له:إن الناس هنا طيبون فقد إعتبروا مُساعدتي فرض عيْن عليهم،وليس فرض كفاية!.

بعد ذلك عملت في الكويت ثمانية عشر عاماً،تزوجت خلالها، ورزقت بأولاد ثلاثة،أكبرهم كان عمره أربع عشرة سنة،عندما وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها!لكنهم بعد تحرير الكويت منعوا أولادنا من الدخول إلى مدارسهم!واحترت في الأمر وبقيت حائراً إلى أن جاء الحل من زوجتي وأولادي أنفسهم،عندما طلبوا مني أن أرسلهم إلى عمان قبلي ليجهزوا أنفسهم للمدارس (فالعام الدراسي الجديد أصبح على الأبواب) ثم ألحق بهم عندما أنتهي من إسترداد جميع حقوقي وتسديد كافة إلتزاماتي!.

وعندما وصلنا حاجز ما قبل المطار قام أفراد من الجيش الكويتي بإنزالنا من السيارة،وتم تفتيشنا جسدياً،وانقض أحدهم على الأولاد ليفتشهم،فارتعبوا وبكى أصغرهم!ثم فتش كل شيءٍ في السيارة، وكان أثناء عملية التفتيش هذه يستهزئ بنا ومن أصلنا!فقد سألنا:هل أنتم فلسطينيون أم أردنيون؟ولم ينتظر جوابنا له بل أجاب على سؤاله بنفسه قائلاً:أنتم في الحالتين من دول الضّد!لا سهّل الله أمركم!وأنت أيها الرجل (وأشار بيده نحوي) ودّع أهلك هنا،فأنت ممنوع من دخول المطار!قلت له:سوف لن أودّعهم،وسأكتفي بتوديعك لهم!.

مقابل هذا الحوار بيني وبين جندي الحاجز تذكرت حواراً آخر دار بيني وبين أحد الطلاب الكويتيين (ليت هذا الجندي يسمعه،فقد يُغير من سلوكه مع الناس) فقد إتصل هذا الطالب هاتفياً وطلب مني أن أدرّسه في البيت فقلت له:ألا تعلم بأنني أحد مواطني دول الضّد،وقد أُنهيت خدماتنا من الكويت؟قال:أعلم ذلك،لكنني أريدك أن تُدرّسني!فقلت له:لقد بعت سيارتي،لأنني أريد السفر!فقال:أبعث لك سيارة تكون تحت تصرفك!فقلت له:وجودي في الكويت لن يزيد عن الشهر!فقال:يكفيني هذا الشهر منك تعليماً!فقلت له:ألا تعلم بأنني فلسطيني؟قال:أعلم ذلك جيداً،ولهذا أريدك أن تُدرسني!فقلت في نفسي شتان بين هذا الطالب وهذا الجندي!فقد صدق من قال:إن من لا يعرف الصقر يشويه!.

في 14/8/1991 وقبل موعد سفري بيوم واحد ذهبت إلى البنك الأهلي في السالمية لأسحب نقودي منه فأعطوني شيكاً بالمبلغ مسحوباً على (سيتي بنك) في عمان،وبعد أن حملت شكي، وذهبت به إلى البيت،وفتحت التلفاز وإذا بهذا البنك أي ستي بنك يعلن إفلاس فرعه في (هونغ كونغ)!فقلت في نفسي:إن فروع البنك كلها تشكل سلسلة واحدة فما إن يُفلس فرع فيها حتى تليه بقية الفروع مفلسة هي الأخرى!وبهذا يكون قد ضاع كل ما جنيناه في سنوات الغربة!.

وفي اليوم التالي والذي كان آخر أيامي في الكويت جاءتني سيارة الطالب الكويتي الذي أدرسه وحملتني إلى بيته وبعد أن درّسته ودّعته!وطلب من سائقه إيصالي إلى المطار!وعندما وصلت ذلك المطار وجدته قد تحول إلى ثكنة عسكرية!وبعد أن أنهيت إجراءات الخروج وذهبت إلى نقطة التفتيش لتكون آخر نقطة إتصال لي بأرض الكويت!ولم يكن معي غير أوراقي الرسمية والشيك وكمية من الفلوس الأردنية التي كنت أملكها وكنت قد وضعت الجميع في حقيبة (سمسونايت) صغيرة!وطلب مني المفتش أن أضع هذه الحقيبة على الطاولة التي أمامه وأن أبتعد عنه مسافة لا تقل عن خمسة أمتار!.

وقام هذا الجندي بفتح حقيبتي وبدأ يعبث في الأوراق الرسمية التي بداخلها فلمح الشيك من بينها فقام بحركة بهلوانية متعمدة أسقط خلالها الشيك تحت قدميه!ولم يكتف بذلك بل أخرج ورقة عملة أردنية كانت معي في الحقيبة وتفل عليها كي يُثيرني أكثر!وقال:خذ حقيبتك وانصرف من وجهي!فما كان مني إلا أن التقطت الشيك الذي تعمّد إسقاطه ووضعته في مكانه في الحقيبة وأقفلت حقيبتي وذهبت إلى المكان الذي فيه تجثم الطائرة على أرض المطار!.

وفي تلك اللحظة مرّ ضابط كويتي من أمامي فقلت له:لو سمحت أريد أن أشكو لك هذا الجندي الذي فتّشني!فقال:على الرحب والسعة تفضل لنجلس في الركن المُقابل كي أسمعك جيداً وأجلسني ثم قال:تفضل هات ما عندك!فقلت له:لن أطيل عليك لأنك صاحب مسؤوليات لكنني أريد أن أقول لك:أنني كنت قد دخلت الكويت مُدرساً منذ ثماني عشرة سنة وخرجت منها مُهاناً!فهذا الجندي عندما تفل على ورقة العملة الأردنية لا يقصدها لذاتها وإنما كان يقصدني أنا!.

فهل هذه هي أخلاق أهل الكويت؟وهل هذا هو الجزاء الذي أستحقه بعد هذه السنين الطويلة التي قضيتها عندكم في سلك التعليم والتربية؟فجن جنونه وطلب مني أن أريَه ذلك الجندي فأشرت بيدي إليه فقال:هذا الجندي ليس كويتياً يا أخي إنما هو ممن تجنسوا!فكانوا بلاءً على الكويت وأهلها!أنت الآن مسافر إلى بلدك لكنني أعطيك وعداً وعهداً مني على مُحاسبته وأنا أعتذر عمّا فعله السفهاء منا!.

قطع كلامه منادي المطار الذي طلب من ركاب رحلة عمّان التوجه إلى الطائرة فلم نكمل حوارنا بل أكملته وحدي عندما ركبت الطائرة مغادراً أرض الكويت!وقفزت على الفور مشاهد رحلة القدوم إلى ذاكرتي فطرحتها من مشاهد رحلة الخروج فكانت النتيجة سالبة!وهذا يعني أن كل الجهد المبذول في بلاد العُرب أوطاني كان قد ذهب مع عاصفة الصحراء!وسيطر هذا المشهد على تفكيري ولم يغب عن مُخيلتي لحظة واحدة كلما تذكرت الكويت والسنوات التي قضيتها هناك مما سبب لي إحباطاً ما بعده إحباط!.

وبقيت أعاني من هذه الحالة حتى ظهرت كوكبة من طلاب مدرسة الإخلاص الأهلية كنت قد علمتهم من دول عربية مختلفة عام 1975 جمعتهم الكويت لم ينسوا فضلي عليهم بالرغم أنني لم أدرسهم سوى سنة واحدة أو سنتين! ولكنهم بحثوا عني طوال هذه السنين الأربع والثلاثين حتى وجدوني على النت وتواصلوا معي!عندها اكتشفت أن من يزرع ويعتني بزرعه لا بد له أن يحصد ولو بعد حين!وليس شرطاً أن تستجيب كل المزروعات للسماد المعطى لها وإليكم مقاطع من رسائلهم.
الدكتور عزت حجازي من جمهورية مصر العربية

فقد كنت بحق أستاذاً فريداً أحببتك وقدرتك فأحببت مادتك وتفوقت فيها وقد حملتني أجنحة العمق العلمي الذي تعلمتها منك لأحلق في دراستي الجامعية لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات كنت أتفوق فيها بأقل جهد مني!في الوقت الذي كان يعاني فيها بقية الطلاب من صعوبة المناهج وقلة كفاءة الأساتذة!وبعد ذلك في بقية دراساتي كنت أتبع طريقتك الفريدة في التدريب والكشف عن بدايات الخيوط وربطها بالمنطق الصحيح حتى أتخطى ما أواجهه من صعاب!وكان لسان حالي دائماً يقول:الصبر الصبر فلا يعقل أن يهزم شخص تعلم طرق التفكير من أستاذ مثل أستاذ جميل عبود!وهذه ليست مجاملة بل هي حقيقة أردت أن أذكرها لك في أول رسالة أرسلها إليك!.
المهندس فارس دبابنة من الأردن

لقد كنت من المدرسين المُميزين الذين فرضوا احترامهم عليّ وعلى كل زملائي فقد كان أسلوبك على عكس الكثير من المدرسين في زمننا يقوم على توضيح طرق التفكير المختلفة واختيار الطريق المناسب لحل المسألة!وهذا الأسلوب هو الذي يبقى في الذاكرة أما الأساليب الأخرى فهي ذات مردود سلبي على العملية التربوية ككل!.
المهندس منقذ شريح فلسطيني كان يقيم في لبنان

Our class was lucky I think to focus on attaining high standards in sciences and mathematics. After Ikhlas, I went to college in the UK then studied Computer Science in the US. I must tell you that I found mathematics too easy after the strong foundation you gave us. I now live in Ottawa, Canada where I run a small computer solutions company. It has been 34 years since our last class in 1975 but I never forgot you as a kind and dedicated teacher that earned our deepest respect for your efforts to raise our standards. I am grateful and fortunate to have had you as my teacher.”
الدكتور حاتم الغصين من غزة
