المكان:السالمية وميدان حولي
الزمان:صيف وشتاء 1990

عادة ما يغترب الشخص عن بلده وأهله لتغيير واقع مادي أو معنوي يعيشه لكنه يرفضه ولا يقبل به وقد يتغير هذا الواقع إلى الأحسن أو إلى الأسوء في بلاد الغربة وفي حالة الأسوء ينسى الإنسان أهله ووطنه ويعيش على الهامش وأما في حالة الأحسن فقد يعود هذا الشخص ثانية إلى وطنه وقد يندمج مع مجتمعه بعد تحسين واقعه المادي وقد يعود إلى وطنه بجسمه فقط لكن عقله يبقى في البلد الذي عاد منه وقد لا يعود أبداً لا بفكره ولا بجسمه بل تعجبه بلاد الغربة التي أعطته فيعطيها.

ذهب الفلسطينيون إلى الكويت لتحسين أوضاعهم المادية ويدخروا لمستقبل أولادهم من بعدهم لكن معظمهم عاشوا حياتهم طولاً وعرضاً لا بل الكثير منهم إعتبر نفسه مواطناً يعيش في بلده وأصبح يقلد (المُترَفين) من أهل الكويت في العيش فمنهم من كان يُبدّل سيارته كل سنة وأثاث بيته كل سنتين ومنهم من كان يتباها بأنه أصبح سندباد عصره فهو يسافر كل صيف إلى الأماكن السياحية العالمية المختلفة.

أما أنا فكنت أرى أن هذا الوضع الذي نعيشه في الكويت سوف لن يدوم إلى الأبد وعلى الشخص منا أن يعرف سبب غربته ويحاول أن يتفادى تكرارها إلى غربة أخرى وعليه أن يعيش حياته كمنحنى (ثابت) أي ليس له (قمة) ولا (قاع) فالقمة تعني التبذير والإسراف والقاع يعني البخل والتقتير والفرصة لن تأت للشخص الواحد منا مرتين في حياته لهذا عليه أن يلتقط الكرة إذا رُميت عليه فوراً دون أي إنتظار لأنه إذا تأخر في إلتقاطها فسيجد غيره قد سبقه إليها.

جاء صيف سنة 1990 وبدأ صديقي الذي أنوي أن أحدثكم عنه يعد العدة ويشدّ الرحال لزيارة كل من تركيا وبلغاريا مثل ما كان يفعل في كل السنوات السابقة وهو كالكثير من الناس الذين لا يعلمون بأن دول الشرق الأوسط عبارة عن كثبان رملية (مُتحركة) قد تتغير معالمها وحدودها السياسية مع كل هبة ريح قادمة من البحر أو من الصحراء على حد سواء لكنه قبل أن يسافر هاتفني على بيتي واتهمني بالبخل والتقتير على مسامع زوجتي لأنني لم أسافر معه فقلت له:سيأتيكم يوم أشد سواداً من الليل الحالك وستندمون على مثل هذه الأيام.

ضحك صديقي من الأعماق وضحكت معه زوجتي هي الأخرى كي تجامله فقط فهي تعلم جيداً أننا نرسم أهدافنا سوياً وكنا قد إتفقنا معاً أن لا نسافر بأولادنا إلى المنتجعات السياحية لأنهم سيتعلقون بها وستصبح بلادنا (فلسطين) بالنسبة لهم من الدرجة الثانية أو الثالثة ولكننا نسافر بهم سنة بعد أخرى إلى بلادنا فلسطين كي يتعرفوا على وطنهم الأم وهم صغار في السن لأنهم إذا كبروا في الخارج فلن يقبلوا بالعيش في بلادهم فيما بعد.

وسافر صديقي بيمن الله ورعايته وبعد أن صال وجال في تركيا وبلغاريا عاد من رحلته تلك في بداية شهر تموز من عام 1990 وعلى الفور قام بالإتصال بي كعادته هاتفياً على البيت وصدف أن ردّت عليه زوجتي في هذه المرة فقال لها:ما هي أخبار اليوم الأسود الذي وعدنا به زوجك؟وأين وصل؟يظهر لي أنه قد ضل طريقه فأخذت منها سماعة الهاتف وقلت له:إنه في الطريق إليكم فلا تستعجلوه ضحك صديقي بصوت عال هذه المرة وحاول تأليب زوجتي عليّ بعد أن اتهمني أمامها بالبخل مرة أخرى.

وفي صباح يوم الخميس 2/8/1990 إحتل العراق دولة الكويت وحصل ما حصل فعلى الفور تذكرت صديقي وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً كنت أنا البادئ هذه المرة بالاتصال وبعد التحيات والتمنيات والسلامات والسؤال عن الأحوال كما هي عادتنا عندما نمسك بتلفوناتنا قلت له:ها قد جاءكم اليوم الأسود الذي كنت قد وعدتكم به وكنت تستهزئ مني ومنه في كل مرة لكنني لن أستهزئ بك أمام زوجتك وأتهمك أنك كنت من (إخوان الشياطين) المبذرين كما كنت تفعل معي في المرات السابقة وتتهمني بالبخل أمام زوجتي سكت ولم ينطق بكلمة واحدة وشفقت عليه وأنهيت المكالمة.

وفي يوم 24/9/1990 سحب صدام حسين الدينار الكويتي من التداول من على أرض الكويت واستبدله بالدينار العراقي فاتصل صديقي هاتفياً ليقول هذه المرة:لقد تساوينا الآن فقد تساوى من يملك مع من لا يملك في هذا اليوم لأن كلانا أصبح مُفلساً لم أجد كلمة واحدة أستطيع بها الرد عليه وعلى أمثاله فقد كان هذا اليوم هو الأصعب في حياتي لا لضياع المال فقط ولكن لأنه كان قد وضع صحاً على الخطأ وخطأ على الصح.
