المكان: الرميثية / الكويت
الزمان: 1990

(أبو مثقال) مُدرّس فلسطيني قديم من (الرعيل الأول) كما يُحب أهل الكويت أن يسمونهم والرعيل الأول من المعلمين الفلسطينيين هم الذين حضروا إلى الكويت طواعية في أربعينات القرن الماضي عندما كان الكويتيون مكيفهم طين البحر وثلاجتهم حبّ من الفخار ولم يكن بالكويت شيئاً من مغريات هذه الأيام بل كان الدافع الوحيد لهذا الرعيل الأول هو ما تعلموه في صغرهم وما علموه لغيرهم فيما بعد من أن (بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان) لا حباً في المال أو الجاه كما يفكر نفر من الكويتيين وغيرهم في هذه الأيام.

من يراه من بعيد يظنه (ضابطاً) كبيراً في الجيش وهو ليس كذلك صامت دائماً لكن صمته ليس صمت البُلهاء فقد تأثر كثيراً بالأسلوب البريطاني منذ كانت بريطانيا منتدبة على فلسطين فأخذ من الانجليز صرامتهم في تنظيم وإدارة أعمالهم اليومية حتى أن سيارته كانت (أوستن) إنجليزية الصنع موديل الخمسينات وعلى الرغم من ذلك كان يحافظ عليها نظيفة لا بل يُنظفها بنفسه ويعتبرها وكأنها موديل سنتها ويغطيها بغطاء من القماش الأبيض يومياً في الصيف وفي الشتاء.

أبو مثقال هذا الذي أنوي أن أحدثكم عنه لا يكلّ ولا يملّ عن العمل الدؤوب المتواصل فهو يؤمن بتغيير الواقع وتذليل الصعاب مهما بلغت شدتها بالعمل الجاد والإخلاص فيه لا يعرف طعماً للراحة أو السكينة أو الهدوء فهو إما أن تجده عاملاً أو قارئاً أو صامتاً مُفكراً أو متكلماً لبقاً لا يستطيع أن ينام وفي ذمته دين لأحد مهما كان هذا الدين صغيراً وهو يحترم الجميع كي يحترمه الجميع لا بل قل:إنه مدرسة (مُتحرّكة) يتعلم منها الكبير قبل الصغير.

حضر إلى الكويت من (غزة هاشم) قبل أن تحتلها إسرائيل عام 1967 وتزوج وأنجب أولاداً وبناتاً في الكويت لكنه كان يختلف عن الكثير من الفلسطينيين الذين عاشوا في الكويت في تلك الأيام فهو كان يربط أولاده بالأرض التي جاء منها وخاصة بعد أن إشترى قطعة أرض في حي (الرمال) على شاطئ بحر غزة وبنى فيها بيتاً له ولأسرته كان يذهب كل سنة إليه ويقضي العطلة الصيفية فيه رغم كل الصعاب والعراقيل التي كان العدو المحتل يضعها في طريقه.
تعرّفتُ عليه في منتصف الثمانينات من القرن الماضي عندما كان يعمل مدرساً في ثانوية صباح السالم للمقررات ويسكن في الرميثية وكان يحلم ليل نهار بقيام الدولة الفلسطينية ويراها قريبة وكان ينتظرها كما تنتظر الأم مولودها البكر فهو يتابع الأخبار في الراديو والتلفاز ويقرأ الصحف اليومية والمجلات الشهرية ويكتب فيها المقالات المحلية والعربية والعالمية مبشراً بقيام هذه الدولة وكان يكره الإحتلال أينما وجد ويقف مع المستضعفين في أي زمان ومكان.

أما كيف تعرّفتُ على أبي مثقال هذا فقد زاملته في إحدى مدارس المقررات في صيف إحدى السنوات وكان يبحث عن مدرس للرياضيات لإعطاء دروس تقوية إلى إبنته في البيت وبعد أن عرفني طلب مني تدريس إبنته في البيت وقبلت على الفور وما أن وصلت بيته لأول مرة وقبل أن إبنته أحضر أجندة وقال:أنا أريد لإبنتي حصتان في الأسبوع وقام بعدّ الأيام التي تحتاجها إبنته لآخر العام وضرب عدد الحصص بالأجرة وأخرج من جيبه المبلغ المطلوب ودفعه لي سلفاً قبل أن أدرس إبنته.

فقلت له:ما عملته معي يعتبر فوق العادة والعادة أن تدفع الأجرة للأجير قبل أن يجف عرقه ردّ عليّ قائلاً:أنا تعاملي مع الناس هكذا إما أن تقبل أو ترفض وقالها بجدية مشوبة بشئ من الغضب فقبلت عرضه خوفاً من غضبه وكانت هذه الحصص التي درستها من أصعب ما درست في حياتي فقد كنت أحرص على عدم التأخير أو الغياب لأني أخذت الأجر سلفاً.

كان يعتبر حرب الخليج كارثة كبرى عليه وعلى العرب والمسلمين كافة فقد كان يقول:لقد جاء الزمن الذي يحتار الحليم فيه أين سيقف بعد أن حيّدت حرب الخليج العقول؟لا بل غيّبتها في إجازة قد تكون طويلة هذه المرة فلأول مرة كان يجد نفسه في موقف لا يحسد عليه فهو لا يستطيع أن يستخدم عقله في هذه الحرب أبداً فالكويتيون كانوا قد رحلوا عن بلادهم دون أن يعدونا بشئ عن مستقبلنا والعراقيون يهددوننا في أرزاقنا إذا لم نداوم معهم في المدارس وينهي كلامه بالقول:إذا أردت أن تعيش حرّاً فعليك أن تكون قويّاً وبعد أن تغيّرت الظروف لم أعد قوياً وبالتالي لن أعيش حراً.

وعندما فتح العراقيون أبواب المدارس بالقوة في عهد الرئيس صدام حسين إضطر كغيره من المدرسين أن يُداوم في إحدى المدارس وفي أحد الأيام بينما كان طالبان يتمازحان في الممر الملاصق لغرفته قام أحدهما و(تفل) على زميله في نفس اللحظة التي كان يخرج بها من غرفته وإذا بالتفلة تغطي وجهه بالكامل وليس وجه الطالب ففكر أنه هو المقصود بهذه التفلة فلم يتمالك نفسه وارتمى أرضاً وبعد أن أخذوه إلى المستشفى وإذا يجلطه غير مميتة قد أصابته وأقعدته عن العمل.

خرج أبو مثقال من المستشفى كدمية رجله اليمنى تتحرك إلى اليسار بدلاً من أن تتحرك إلى الأمام وكذلك يده اليسرى فلا تتحرك إلا لليمين فقط ونصف وجهه الأيمن لا يتحرك وإذا تكلم يتكلم بصعوبة شديدة فمن لا يعرفه سابقاً لا يستطيع أن يفهم عليه ما يقوله الآن وعندما إلتقيته صدفة تقوده إحدى بناته كي يشتري أشيائه من دوار شارع عمان بعد أن تحوّل هذا الدوّار إلى سوق تجاري.

احنا الفلسطينيين ما ابنهتم بالفينا بنهتم شو البصير في الحولينا لهيك ما كان مهتم ليطلع الدرج ومهتم ليرجع بلدوا وقولي للكاتب فلسطين راجعه راجعه ان شاء الله
إعجابإعجاب
الكاتب يتمنى لك رجوعاً قريباً إن شاء الله
إعجابإعجاب