منعته إمرأة إيرانية من السفر وأفرجت عنه حرب الخليج


المكان: الكويت
الزمان: 1990
Jamma_in-71057
شجرة التوت المُعمّرة

اليوم يُلقبه الناس بكنيته المشهور بها بينهم وهي (أبو كمال)، ولم يكن يُسمى بهذا الإسم، عندما كان يعيش في إحدى قرى فلسطين، التي تطلّ على البحر الأبيض المتوسط، حيث كان يسكن مع أهله وأقاربه وجيرانه وعشيرته، وهناك كان الجميع يعرف الجميع، وكانت الثقة بينهم مُتبادلة، وكان يعيش حياته بأخلاق القرية، فلا غشّ ولا خداع، ولا تدليس ولا نفاق، أما أهل القرية فجُلهم يعملون بالزراعة والفلاحة، ولا صنعة لهم غير ذلك، وكانوا بعد أن ينتهوا من أعمالهم الزراعية اليومية، يجتمعون تحت شجرة (توت) مُعمّرة، كانوا قد اتخذوا من ظلها مجلساً لهم.

imagesCAPK3GU7
راعي الغنم

وفي أحد الأيام، بينما هم جالسون تحتها، وقبيل أن يحين موعد صلاة المغرب بقليل، ظهر عليهم رجل غريب يتقدم نحوهم، وبدأ هذا الرجل يقترب منهم رويداً رويداً، وعندما اقترب منهم أكثر، دقق أحدهم النظر  فيه، وصاح بأعلى صوته، وقال: إنه فلان الفلاني،(راعي الغنم) الذي كان قد اختفى من القرية منذ مدة، لكنه اليوم لا يحمل عصاه، ولا شبابته، ولا زوادته. تقدم الرجل نحوهم، وألقى السلام عليهم، وقام بمصافحتهم فرداً فرداً، بعد ذلك دعوه للحلوس معهم، لكنه لم يجلس على حجر مثلهم، بل ظل واقفاً، فهو يرتدي قميصاً شفافاً أبيض اللون، ماركة (آرو)، ويضع في جيبه العلوي (عشرة دنانير)، كي يراها من ينظر إليه، ويرتدي بنطالاً من (التركال) المكوي كحد السيف، ويدخن دخان (الروثمان)، ويلبس نظارة شمسية، ماركة (بيرسول).

imagesDASMXEQN
الكويت

اندهش الناس جميعاً لرؤيته بعد أن تبدّل حاله، ولم يسأل أحد منهم عن صحته، ولا عن أحواله، هكذا نحن دائماً، (نحسد الكلب عافيته)، لكنهم لم ينسوا أن يسألوه في الحال: من أين لك هذا يا فلان؟ فقال لهم: من الكويت، وسأله أحدهم: وكيف وصلت إليها؟ فقال: لقد ركبت الحافلة إلى عمان، ثم إلى بغداد، ثم إلى البصرة، ثم أكملت الطريق إلى الكويت مشياً على الأقدام، بعد أن استأجرت رجلاً عراقياً من البصرة، ليدلني على الطريق، ودفعت له الأجرة سلفاً، لكنه بعد أن أخذها مني، تمكن من الإختفاء، وتمكنت أنا من العودة ثانية إلى البصرة، واستعنت بغيره، بعد أن اشترطت عليهم أن تُدفع الأجرة في الكويت، وعندما وصلنا مشارف الكويت، دفعت له الأجرة وقال لي: في أمان الله أتركك.

timthumb
كتب على شعوب هذه الأمة أن تجري وراء لقمة عيشها 

دخلتُ الكويت صباحاً، فرأيت جمعاً من الناس يتحلقون حول شخص، يقوم بتسجيل أسمائهم، فسجلتُ إسمي معهم، دون أن أعلم عن الموضوع شيئاً، وبعد دقائق معدودة، وإذا بشاحنة كبيرة تقف إلى جانبنا، ويقول من سجّل أسمائنا: إطلعوا بهذه السيارة يا شباب، وبعد أن ركبت في الشاحنة، فوجئت بالركاب، وإذا بهم يُمثلون شعوب الأمة العربية والإسلامية كلها، فقلت في نفسي: هل كُتب على شعوب هذه الأمة أن تجوب البحار، وتقطع الصحارى والوديان، جرياً وراء لقمة عيشهم؟ أم أنه وُجد من يُشغل هذه الشعوب بالآخرة على حساب الدنيا، مما جعل هذه الشعوب تفشل في إدارة حياتها وحل أزماتها؟.

426326264344
وظيفة مكتبية

ثم قام هذا الشخص، بتوزيعنا على ما عنده من أعمال، كل حسب قدرته وخبرته، وبعد ثمان ساعات، جاءت نفس الشاحنة التي أوصلتنا إلى العمل، وأرجعتنا إلى المكان الذي أخذتنا منه، وهكذا كان العمل اليومي لنا، وبعد شهر من الزمان، لاحظ المسؤول  عني قدراتي، فعينني مُشرفاً على العمال، وبعد شهر آخر، شغرت وظيفة مكتبية، فرشحني لها، وأصبحت بذلك موظفاً، ولم أكن أعلم، بأن كل من يعمل يستحق إجازة سنوية، وأنا الآن أتمتع بهذه الإجازة المدفوعة الراتب.

OTA1MQ==
نحن نعمل مع طلوع الشمس وننتهي عند مغيبها

اندهش أهل القرية جميعاً مما سمعوا، واحتج أحدهم حيث قال: أيعقل أن أدفع لعامل أجرته، وهو جالس في بيته؟ هذه واحدة، أما الأخرى التي لم أقتنع بها، هي عدد ساعات العمل اليومي، أيعقل أن يترك العامل عمله، بعد ثماني ساعات دون أن ينتهي منه أو ينهيه؟والعادة عندنا أن يبقى العامل يعمل، حتى يتكرّم عليه صاحب العمل، ويقول له: الله يعطيك العافية، فنحن نعمل مع طلوع الشمس، وننتهي عند مغيبها، أما الأجر فيقدره صاحب العمل.

1_994536_large
أصبح أبو زهير ممرضاً

وكان أبو كمال واحداً من هؤلاء الحضور الذين يجلسون تحت التوتة، وكان كله آذان صاغية لهذا الراعي، فهو لا يحبّ العمل الزراعي، ويعتبره من الأعمال الشاقة المؤبدة، وبعد أن انتهى الراعي من كلامه، سأله أبو كمال إذا كان يستطيع أن يرافقه إلى الكويت؟ فردّ عليه الراعي قائلا: لماذا تنتظرني؟ إذا كنت تستطيع أن تمشي من البصرة إلى الكويت، فاذهب غداً. وهكذا جاء أبو كمال للكويت من قريته، صغير السن، بعد أن مشى على أقدامه الطرية من البصرة إلى الكويت، ولم تنسه صعوبة وطول الطريق، بساطته وثقته بالناس، وعاش أبو كمال في الكويت بثقافة وأخلاق القرية، ولم تُغير فيه حياة الكويت شيئاً، وعمل موظفاً في وزارة الصحة فترة من الزمن، جعلته يُتقن مهنة التمريض، إلى أن أصبح مُمرّضاً بالممارسة، بعدها تزوج واستقر في الكويت.

untitled95
المرأة الايرانية

عندما تعرفتُ عليه كان نتاج هذا الزواج خمسة أولاد، وبنت واحدة، كبر الأولاد وأصبح دخله من الوظيفة لا يكفي لكافة احتياجاتهم، فاضطر أن يعمل خارج دوامه الرسمي سائقاً في أحد المكاتب، وفي يوم من الأيام، ركبت معه إمرأة من الجنسية الإيرانية، وطلبت منه توصيلها إلى مكان ما على أرض الكويت، وفي الطريق سألته عن جنسيته، فأجابها بأنه من الجنسية الفلسطينية، فقالت له بلهجة عربية مكسرة: أنا أحب القدس، والفلسطينيين، فهم شعب نشيط مُكافح، ولا يكتفي بدخل واحد، وعندما أوصلها إلى المكان المطلوب، أعطته عشرة دنانير، ولم تأخذ منه الباقي، وقالت له: عرّفني على إسمك، كي أطلبك بالمرات القادمة، وعرّفها على إسمه، وأصبحت تطلبه من المكتب بالإسم، وتعطيه أضعاف التسعيرة، حتى أنه أصبح في اليوم الذي تركب معه هذه المرأة، يعود إلى بيته ويكتفي بما دفعته له.

8d503965d6
الربح عندي 60% بينما البنك يعطيك على الأكثر 10%

وفي أحد الأيام، استدعته هذه المرأة ليقوم بتوصيلها إلى أحد الأماكن، وفي الطريق، قالت له: أنا أريد أن أخدمك أكثر، فكيف لي ذلك؟ أعطني ما عندك من فلوس، لأقوم بتشغيلها لحسابك الخاص بتجارتي، وسأعطيك أرباحاً مجزية أكثر مما يعطيك البنك، سأعطيك على كل ألف دينار 50 ديناراً كل شهر، أي نسبة الربح عندي ستكون 60 %، بينما البنك يعطيك على الأكثر 10 %. اقتنع أبو كمال بكلامها، وقام بسحب فلوسه كلها من البنك، ووضعها في (بنك) هذه المرأة المجهولة، فهو لا يعرف عنها شيئاً، ولم يطلب منها أيّ إثبات، وفي نهاية الشهر الأول أعطته أرباحه، وأصبح يروي قصته هذه، لجميع أقاربه وأصدقاءه المقربين، ومنهم من حسده على هذه المرأة، ومنهم من سال لعابه وتمنى لو أنه مكانه.

101110031023xsh7a9v67te599drh0d1
وتسابق أقاربه وسحبوا كل فلوسهم من البنوك 

وفي اليوم التالي، إستدعته هذه المرأة، وقالت له: جربتني مرات، وتأكدت من خدمتي لك، لكنني أريد لهذا الخير أن يعم على أقاربك ومعارفك أيضاً، فمن يرغب منهم أن يضع فلوسه معي، فأهلا وسهلا به. وأسرع إلى أقاربه فرحاً مسروراً، وقال لهم: لقد وافقت (السيدة) على أن تضعوا فلوسكم عندها، وتسابق الإخوان وسحبوا كل فلوسهم من البنوك، وأعطوها له، ليعطيها بدوره لها، واستطاع أن يجمع بهذه الطريقة 300 ألف ديناراً، وأعطاها كل ما جمعه منهم، فما كان من هذه المرأة، إلا أن أخذت كل هذا المبلغ الضخم، وسافرت به إلى إيران، وتركت الكويت بمن فيهاً، وأصبح الكل يطالبه بما دفع، ورُفعت عليه القضايا، ومنع من السفر، وتقطعت أواصر القربى بينه وبين أقاربه، بعد أن أفلسوا جميعاً، وبقي أبو كمال على هذا الحال، إلى أن جاءت حرب الخليج، وفتحت له الحدود، وخرج من الكويت سالماً، ولكنه ليس غانماً، كما يقولون.

مشاهد كويتية بعيون فلسطينية من حرب الخليج

رأي واحد حول “منعته إمرأة إيرانية من السفر وأفرجت عنه حرب الخليج

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s