
خُلقت تلك البنت المسكينة على الفطرة كغيرها من بنات جيلها لكنها تختلف عن بنات جنسها بأن أباها ضعيف الشخصية سهل القيادة لا يعرف الحقوق من الواجبات، لهذا أوكل مهمة تربية ابنته المسكينة إلى أمها ظناً منه أن الأم أقرب إلى البنت من أبيها، فوجدت المسكينة نفسها بين يدي أم متسلطة أحياناً ومتساهلة في كثير من الأحيان ومُحبطة دائماً لا تحب أحداً ممن هم حولها ولا تطلب الحب من أحد، وأخذت هذه المسكينة تراقب أمها عن كثب وتسجل في ذاكرتها كل ما تراه عيناها من سلوكيات أمها مع الآخرين وكل ما تسمعه أذنيها من أقوال عن المحيطين بها وكل ما يصدر عن أمها من تصرفات وهي صامتة لا تتكلم بينما تبني ذاكرتها اللاواعية مخزوناً ضخماً من السلبية.

واستمرت هذه المسكينة على هذا الحال قرابة عقدين من الزمان حتى أصبحت تشعر أن لسانها كاد أن يلتصق بحلقها ولا يستطيع الحركة، ولكنها بعد أن تزوجت واستقلت عن أمها استعادت الشريط القدِيم المخزّن في ذاكرتها فانطلق لسانها وسالت عندها الذاكرة، فكان أول ما تذكرته من هذا الشريط هو دهاء أمها عندما استطاعت أن تدق الإسفين الأَول بين والدها وأهله، واستحضرت في الحال من ذاكرتها كيف استطاعت أمها أن تجعل من زيارة أهل والدها لولدهم كابوساً وهمّاً لجميع الأطراف، ثم تذكرت أيضاً كيف استطاعت أمها أن تغرس في أولادها كره أهل والدهم، وكيف كانت أمها تبين لأولادها كل قبيح عندهم، وكيف كانت توضح لأولادها سيئاتهم بعد تضخيمها لهم، وكيف كانت تحقنها في عقول أولادها بعد أن تجعلها كبيرة.

حاولت المسكينة أَن تتذكر يوماً قامت فيه أمها بذكر أهل والدها بخير فلم تجد، لكنها على الفور تذكرت كيف كانت أمها تزين لأولادها كل قبيح عن أهلها، وكيف كانت تخفي عن أولادها كل سيئة عن أهلها، وتذكرت كذلك السعادة الغامرة التي كانت تحصل عليها عندما كانت تصل أهل أمها، والضيق والملل الذي يصيبها عندما تصل أهل أبيها، وبقي هذا الشريط من ذكريات الماضي يطاردها خاصة عندما تختلي بنفسها.

حاولت المسكينة أن تتخلص من هذا الشريط أكثر من مرة!لكنها لم تفلح لأنه أصبح جزءاً من تفكيرها ومن سلوكها اليومي مع الآخرين دون أن تعلم، وبدأت تقارن نفسها مع من تزوجن معها في تلك الفترة فوجدت نفسها كوردة ذابلة بعد أن نحل جسمها وغارت عيناها بعد أن أصبحت ترى صورتها السلبية في عيون الآخرين، فلا أحد منهم يحبها أو يحب محادثتها أو الجلوس معها.

وفي يوم من الأيام تأخر زوجها في العمل ففتحت الكمبيوتر لتجد مقالاً على الشاشة عن كيفية التأثير على الزوج، وبدأت المسكينة تقرأ فيه بشغف، فوجدت كلاماً لم يسبق لها أن سمعته من أمها حين قرأت في هذا المقال أن من تحب زوجها عليها أن تحب أهله، واحتارت المسكينة في أمرها فكيف لها أن تحب أهل زوجها وهي بلا تجربة من أمها، واستمرت في القراءة إلى أن قرأت أن عليها أن تكرمهم فاحتارت أكثر فهي لم ترَ أمها تكرم أهل والدها إطلاقاً، وتابعت فقرأت أيضاً وتحرص على استضافة أهل زوجها في بيتها، واحتارت أكثر فأكثر فهي لم تر أمها يوماً قد استقبلت أهل والدها في بيتها ولو لمرة واحدة.
