
كنت قد التحقت متأخراً عن زملائي الطلاب في السنة الجامعية الأولى مدة من الزمن لا تقل عن الشهرين وكنت قد تعرفت خلال هذه الفترة التي كنت أقيم فيها في (الفتدق العربي) على شاب له نفس ظروفي وهمومي ومشاكلي في ذلك الوقت فأصبحنا أصدقاء ولم تدم إقامتنا في الفتدق طويلاً بعد أن سجلنا سوياً في نفس الكلية وانتقلنا بعدها إلى سكن الجامعة واخترنا غرفة تتسع لشخصين وأقمنا فيها وبعد أن عشت معه في غرفة واحدة تعرفت عليه أكثر فوجدته شخصية غريبة ذكية طموحة تائهة عنده إستعداد أن يعمل ويجيد في كل شئ إلا في الدراسة.

في اليوم التالي ذهبنا سوياً إلى المحاضرة الأولى في الجامعة فوجدنا الطلبة كانوا قد انتظموا في دراستهم قبلنا بشهرين على الأقل لهذا لم نفهم شيئاً من هذه المحاضرة فهم كانوا قد قطعوا شوطاً لا بأس به من المقرر الدراسي فكان علينا شراء الكتب ومراجعة ما فاتنا من دروس وعلى الفور ذهبنا إلى المكتبة واشترينا كل الكتب ما عدا كتاب (الهندسة التحليلية) لأنه كان قد نفذ من الأسواق.

سألت صديقي عن الحل، فأجابني على الفور: لا بد من الحصول على هذا الكتاب، بأي طريقة كانت؟ وقالها بحزم، وكأنه كان قد سبقني في اكتشاف المشكلة، والتفكير في حلها، فسألته: وكيف سيتم لنا ذلك؟ فأجابني دون تردد: غداً صباحاً سيقوم كل طالب بحجز مقعده في المدرج قبل المحاضرة، وذلك بوضع كتبه في المكان الذي يختاره، ثم يذهب الطلاب لقضاء حوائجهم قبل بدأ المحاضرة، وفي هذه الأثناء يقوم أحدنا برصد حركة الطلاب في تلك الفترة، ويدخل الآخر إلى المدرج، ويأخذ كتاباً من هذه الكتب، ثم نغادر الكلية بعدها للبيت فوراً.

فِي اليَوْمِ التَّالِي نَفَّذْنَا الخطَّةَ كامل وَأَخَذْنَا الكِتَابَ مِنْ المُدَرَّج وَلَمْ نحْضرْ مُحَاضَرَاتِ ذَلِكَ اليَوْمِ فَرِحين بِاِمْتِلَاكِ ذلك الكتاب وَخَوْفا مِما اِقْتَرَفَتْهُ أَيْدِينَا في ذلك اليوم سيئ الذكر وقيل أن تبدأ المحاضرة دخل صَاحِبُ الكِتَابِ المدرج فلم يجد كِتَابَه فَسَأَلَ الحُضُورُ عَنْهُ فَلَمْ يُجبهْ أَحَد فَتَقَدَّمَ صاحب الكتاب بِشَكْوَى لِعَمِيدِ الكُلِّيَّةِ عَلَى الفَوْرِ قصُعِقَ العَمِيدُ مِنْ هَوْلِ الكَارِثَة وَاهْتمَّ بِهَا كَثِيرا لِأَنَّهَا تَحَدَّثَ في الكلية لِأَولِ مَرة وَقَامَ بِالإِعْلَانِ عَنْ كِتَابٍ مَفْقُودٍ فِي جَمِيعِ مَرَافِقِ الكُلِّيَّة أَما صَاحِبِي وبِالرغمِ مِنْ تَخْطِيطِه وَمُشَارَكَتِه فِي تَنْفِيذِ هَذِهِ العملية فَهُوَ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ الكِتَابِ أَبَدا لِأَن الدِّرَاسَةَ لَمْ تَكُنْ هَدَفا لَهُ بَلْ كَانَتْ لَهُ أَهْدَافٌاً أُخْرَى لَمْ أَسْتَطِعْ مَعْرِفَتَهَا حَتى الآن.

صحوت ذات يوم من من نومي فلم أجد صاحبي في فراشه كالعادة ولا زلت أبحث عنه حتى يومنا هذا أَما أنا فقد تحقق حلمي بامتلاك كتاب الهندسة التحليلية الذي لم أجرؤ على اصطحابه معب للمحاضرة طيلة العام الدراسي خوفاً من أن يتعرف عليه صاحبه حتى ولو كتبت إسمي على الصفحة الأولى منه فكنت أتركه في البيت لمراجعة ما يصعب عليّ فهمه في المحاضرة والغريب في الموضوع أنني لم أفكر ولو لمرة واحدة بصاحب هذا الكتاب الذي أعرف إسمه جيداً حتى لحظة كتابة هذه السطور وبودي الآن لو أستطيع أن أعرف شيئاً عن ردة فعله حيتذاك فهل يا ترى نسي الموضوع تماماً أم أنه تناساه أم لم ينسه مثلي حتى الآن؟.

عِنْدَمَا ترَكِّنِي صَاحِبِي قُمْتُ بِتَغْيِيرٍ سَكَنِي وَسَكَنْتُ وَحَدِيَ فِي غُرْفَةٍ لَهَا شباك عَالي جداً يُسْتَخْدَمُ لِلإِنَارَة فَقَطْ وَلَا يُمْكِن فَتْحُهُ أَبَدا وَكَانَ يُوجَدُ تَحْتَهُ رَفّ خَشَبِيّ عَلَى طُولِ وَاجِهَةِ الحَائِط فقُمْتُ بِوَضْعٍ كتبي عَلَى هَذَا الرَّفّ مُرْتَبَة وفِي أَحَدِ الأَيامِ أَجْبَرْتُ عَلَى سَفَرِ مُفَاجِئٌ لِمُدةِ أُسْبُوع وَخِلَالَ هَذَا الأُسْبُوعِ أُمْطِرَتْ السَّمَاءُ وَأَرْعَدْت وَأَثْلَجْت فِي غَيْرِ مَوْعِدِهَا فَتَسَرّبَتْ المِيَاهُ مِنْ هَذَا الشُّبَّاكِ المُحْكَمِ الإِغْلَاقِ إِلَى رَفِّ الكُتُبِ المُمْتَدِّ عَلَى طُولِ وَاجِهَةِ الحَائِط وعِنْدَمَا رَجَعَتُ مِنْ السَّفَرِ وَفَتَحَتُ البَاب فوجِئَتُ بِكَمِّيَّةِ المِيَاهِ المُتَسَرِّبَةِ مِنْ هَذَا الشُّبَّاك وَاِنْدَهَشَتُ أَكْثَر عِنْدَمَا قُمْتُ بِحَصْرِ تِلْكَ الأَضْرَارِ النَّاتِجَةِ عَنْ تَسَرُّبِهَا فَوَجَدْتهَا قَدْ أَغْرَقَتْ فَقَطْ هَذَا الكِتَابَ تَمَاما حَتى أَنهُ أَصْبَح غَيْر صَالِحٍ لِلاِسْتِعْمَالِ وَبَأنَ هَذَا الكِتَاب قَدْ أَغْرَقَ مَعَهُ الكِتَابَيْنِ المُجَاوِرَيْنِ لَهُ مِنْ اليَمِينِ وَمَنْ اليَسَار جزئياً.
