
لم يرزقني الله أخوالاً مثل بقية خلق الله لكن أمي كان لها من الأخوال ثلاثة فكانوا بمثابة أخوالي وفي بداية الستينات من القرن الماضي وفي أحد أيام عام 1963 التي عشتها في فلسطين زارنا أحدهم وسمعته يقول لأمي: غداً إن شاء الله سأذهب لزيارة أولاد خالتك في بلدة ترمسعيا وما أن سمعت بهذه الكلمة حتى بدأت أتوسل إلى أمي بأن تسمح لي بمرافقة خالها في هذه الرحلة وبعد أخذ ورد وافقت أمي تحت الحاحي ووافق الخال أيضاً لكن بعد أن هددني بقوله: إعلم يا ولدي أن المشوار طويل ومتعب وأشترط عليك أن تتحمل المشقة والتعب وأن لا تئن أو تتوجع في الطريق.

وفي صباح اليوم التالي حضر الخال ومعه ابنه وانطلقنا ثلاثتنا ورابعنا الحمار الذي يتقدمنا محملاً بالهدية وهي سلة من التين وسلة مثلها من العنب وفوقهما سلة من الصبر ومن طريف القول أن الخال كان يستوقف كل من يلتقي به في الطريق ويشرح له وجهة سيره والغرض منها ويصرح له بما يحمله هذا الحمار من هدية إلى أولاد أخته دون أن يسأله أحد وفي حينه لم أفهم ما يقصده الخال من هذا التصرف لكن عندما كبرت أكثر فهمت أن زيارة الأرحام في ذلك الزمان كانت مفخرة ومن الطريف أيضاً أنني كنت أظن أن أولاد أخته صغار بالسن ويستحقون منه الرعاية والزيارة لكنني اندهشت أكثر عندما رأيت من استقبلنا منهم أكبر سناً من خاله.

وبعد السلام والترحاب بنا سأل الخال ابن أخته عن اخوانه فأجابه بأنهم موجودون في الديوان فطلب منه أن نذهب نحن إليهم إلى الديوان كنوع من المفاجئة وذهبنا وإذا بالناس الموجودين في الديوان مجتمعين في حضرة شيخ ومساعد له يقرأ عليهم مولداً وانضممنا إليهم على الفور دون أن نصافح أحداً منهم وكأننا حضرنا إلى الصلاة في مسجد متأخرين عن موعد الصلاة وتابعنا معهم ترديد ما يقرأه الشيخ عليهم: يا آمـنـة بـشـراك سبحان من أعطاك بـحـمـلـك محمـداً رب السما هنّاك.

فجأة وإذا بالشيخ يُغير من لحنه ليقول فتتوا ولم أفهم ما قاله الشيخ فاقتربتُ من الخال وسألته مستوضحاً فأجابني همساً وعيونه تراقب الشيخ خوفاً من أن يراه وهو يتكلم فالكلام ممنوع إلا للشيخ أي فتتوا الخبز وضعوه في المناسف وعاد الشيخ ثانية ليقرأ مولده وفجأة قطع لحنه ثانية ليقول مرّقوا ولم أفهم ما قاله واضطررت إلى سؤال الخال ثانية عن المقصود فأجابني: أي ضعوا المرق على الخبز واستمر الشيخ في قراءة مولده هذا والناس تردد ما يقوله لهم ومنهم من كان يفهم ما يقوله هذا الشيخ في مولده ومنهم من لا يفهم ما كان يقول.

وفجأة غير الشيخ من لحنه ليقول هذه المرة رزّزوا ولم أفهم من كلامه شيئاً فاقتربت من الخال مستفسراً عن ما قاله الشيخ هذه المرة فهمس في أذني قائلاً: أي ضعوا الرز على المناسف واستمر الشيخ مُردّداً: يا آمنة بشراك سبحان من أعطاك … ونظرت إلى ركن بعيد عني في الديوان وإذا بفريق كامل ينشغلون في إعداد الطعام وكان الشيخ يراهم بل يُراقبهم وعندما اطمأن أنهم قاموا بالترزيز وإذا باللحن يتغير مرة أخرى ليقول بعدها لحّموا ولم أفهم شيئاً مما قاله الشبخ فسألت الخال مرة رابعة عن قصده في هذه المرة وهمس في أذني وقال: أي ضعوا اللحم على المناسف.

وأكمل الشيخ لحنه الجميل هذا: يا آمنة بشراك سبحان من أعطاك بحملك محمداً … وعندما تأكد من إتمام عملية التلحيم أنهى مولده بسرعة وقام الحضور إلا أحدهم فقد كان قد غلبه النعاس ونام وأخذوا يتندرون عليه وأجمع الجميع على أنها وُلدت في حجره من هي هذه التي ولدت في حجره لا أعرف ولا هم يعرفون؟ ولكنها من ألاعيب الشيخ كي يتابعه الناس أثناء القراءة ولا يتكلمون وسيبلغون عنه الصغير والكبير في القرية فالقرية كلها تنتظر لتعرف من الذي ستلد في حجره هكذا أفهموهم شيوخهم لكن الطعام كان أهم من ذلك بكثير فقد استطاع أن يشغل الناس عن هذا الموضوع مؤقتاً وتناسوا من رست عليه هذه المناقصة والتف القوم حول موائدهم زرافات والتهموا اللحم أولاً من فوق المناسف.
