
في نهاية سبعينيات القرن الماضي قررتُ أن أبني بيتاً مُتواضعاً من الحجر في سلفيت، فاستشرت كل من هم حولي ممن لهم تجارب سابقة في البناء، فأخذ كل واحد منهم يمدح ويذمّ من تعامل معهم في السابق، وأنا أسمع منهم جيداً لما يُقال. ومن جملة ما قالوا أن فلاناً يخاف الله في عمله أما فلان فهو لا يُصلي إلا في الجامع وأما فلان فهو سَمْح متسامح في الكيل والميزان، وأما فلان فهو ليس جشعاً ولا طمّاعاً، أما فلان فلم نره يوماً في مسجد.

لكنني لم أدرك في ذلك الوقت أن كل ما يهمني في الشخص هو إتقان عمله ليس إلا، ولا يهمني ما يتمتع به من علاقات عامة استطاع من خلالها أن يجعل الناس مولعين به، فأنا لا تهمّني الأمور الشخصية، وإنما يهمني من الشخص عمله واتقانه له ليس إلا، وبعد أن أجمع الناس على مقاول مُعيّن ذهبت إليه واتفقتُ معه على بناء هذا البيت العتيد.

وبدأ الرجل يبني إلى أن وصل البناء إلى الشبابيك فقام بِعدّ الحجارة المخصصة لها، فوجدها تنقص حجراً أحمراً واحداً فطلبني إليه في الحال، وعندما وصلته قال: هناك حجر أحمر ناقص من أحجار الشبابيك، فإما أن أوقف البناء حتى تحضره لي، أو أن أقوم بوضع حجر يزيد قليلا فيبرز في حافة الشباك، وسأقوم بقص الزائد منه في أقرب فرصة سانحة. وافقت الرجل على ما قاله واشترطت عليه أن يقصّه في الغد قبل أن يزاول عمله. وافق الرجل وأكمل البناء.

في اليوم التالي، لم يقصّ الرجل الزائد من هذا الحجر، فطلبت منه ذلك فوعد خيراً ولم يفعل. وبقي يُماطل إلى أن أخذ أجرته وذهب ووعد بقصه في اليوم التالي، ولم ينفذ وعده، وبقي الحجر الأحمر بارزاً للخارج يراه كل من ينظر إلى الشباك. وعندما طالبته بقصّه قال: يقصّه لك من سيكحل الحجر. وجاء من يُكحّل الحجر فطلبت منه أن يبدأ بقص الزائد من الحجر فاحتج وقال: سأقصه لك لكن دون أن تلزمني بموعد، وأنهى الرجل وقبض أجرته دون أن يقص الحجر.

وعندما طالبته بقصه قال: يقصه لك من سيَقْصُر البيت. وجاء القصّير وطالبته بقص الحجر وأخذ يُماطل إلى أن أنهى عمله وأخذ أجرته وقال: يقصّه لك من سيركب الألمنيوم للشباك. وجاء من يُركّب الألمنيوم وطلبت منه الطلب نفسه لكنه ركّب الألمنيوم وبقي الحجر على حاله، وأخذ أجرته وانصرف. وما لفت انتباهي أن كل من طالبتهم بقص هذا الحجر كانوا يتركون أعمالهم ليقيموا الصلاة ظهراً وعصراً ومغرباً.

وعندما جاء دور التبليط قررت أن أستفيد من تجاربي السابقة، لهذا قررت أن لا يبلط لي بليط يمدحه الناس وكان هناك بليط لم أسمع أحداً من الناس يمدحه فهو لا يصلي ولا يحضر حلقات الغيبة والنميمة على الرغم أنه ملتزم في عمله، لا بل يعشقه، حتى أنه يعمل لوحده دون مساعد، فهو الذي يحضر كل ما يلزمه بنفسه مما يجعله يطيل في العمل أكثر من اللزوم، لكن له موقفاً من الشيوخ والحجاج ورجال الدين، فكان يتهمهم بتجيير الدين لصالحهم فجردوه من دينه وعرّوه أمام الناس أجمعين.

قلت في نفسي: لن أتقيد بما يقوله الناس فقد جرّبت كل من مدحهم الناس وعليّ أن أجرّب من لم يمدحه أحد، فذهبت إليه في بيته لأنه لا يظهر على الملأ كغيره ممن يمدحون أنفسهم، وطلبت منه أن يُبلّط لي البيت. وافق الرجل بشروط، منها أن لا يُقدَّم له شيءٌ من المشروبات أو الطعام، وأن لا يكلمه أحد، وأن لا يساعده في عمله أحد. وبعد أن وافقت الرجل على جميع طلباته، طلب مني أن يتعرف على البيت ليبدأ العمل بعد أن ينهي الورشة التي يعمل بها.

اصطحبت الرجل إلى بيتي وما أن اقتربنا منه أكثر حتى رأى الحجر الأحمر البارز ولم يتكلم، لكنه اعتذر مني كي يعود إلى بيته ثانية، مُتذرعاً بنسيان شيءٍ مهم، وبعد أقل من نصف ساعة عاد ومعه مقصٌ للحجر، وبدأ في قص ذلك الحجر الأحمر دون أن أطلب منه ذلك وبعد أن أنهى عمله قال لي: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، وبعد أن أزال الحجر قال: الآن أستطيع أن أتفرغ لبلاط بيتك.
