
كان لي صديق قديم لا زلت أحبه وأحترمه حتى الآن، لكن عيبه الوحيد أنه يتفاخر بأولاده كثيراً (على الأقل أمامي)، فهو لا يتورع أن ينقل لي رأياً أو حديثاً أو تحليلاً لأحد أولاده عن كل صغيرة وكبيرة تحدث وكأنهم من علماء هذا العصر. وعندما عاتبته على ذلك أصرّ على أن أجلس مع أبنائه كي أكتشف بنفسي وعيهم وثقافتهم فما كان مني إلا أن وافقت في الحال فصاح على ابنه الأصغر فدخل علينا الغرفة وسلم وعرّفه والده عليّ وقال له: استمع لما سيقوله لك صديقي، فاحترت من أين أبدأ حديثي مع هذا الطالب وبصفتي معلماً للرياضيات قررت أن أبدأ حواري معه فيما أعرف.

قلت له: في أي صف أنت؟ قال: في الصف العاشر قلت: وماذا عن رياضيات العاشر؟ قال: كان المعلمون في السنوات السابقة يقومون بإلغاء براهين النظريات لنا ويكتفون بذكر نصوصها فقط، ويقومون بإلغاء كل الأسئلة النظرية والأسئلة الكلامية والنشاطات والأسئلة الاستنتاجية، ولا يطالبوننا إلا بالأسئلة الرقمية فقط، لا بل يقومون بإلغاء أي وحدة في الكتاب المدرسي تحتاج منهم إلى شرح وتوضيح وسرنا على هذا المنوال إلى يومنا هذا.

فجأة في هذا العام وجدنا أنفسنا أمام مدرس كبير في السن يقول لنا: إن التعليم يا أولادي هو حوار ونقاش بين المعلم وطلابه، وكل حوار يحتاج إلى الهدوء فعلى الجميع أن يسمع ويستمع لما يقال في الحصة، والمتكلم يجب أن يكون واحداً فقط، وعلى الباقي الاستماع له، فإذا تكلم الأستاذ كان يمنع غيره من مقاطعته، وإذا سأله أحدنا سؤالاً كان يستمع له ويناقشه في سؤاله إلى أن يقنعه.

وتعلمنا منه كلمات كانت جديدة علينا مثل: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ فكان يضبط حصته ولا يبقي ولا يذر موضوعاً في الكتاب المدرسي إلا ويشرحه ويعلق عليه، ويطلب منا التعليق أيضاً كي نتعلم النقد الهادف، ثم يقوم بشرح النظريات وبراهينها ويستنتج معنا القوانين ونتائجها، ويعلمنا رسم الاقترانات وفوق ذلك جعلنا نستعمل المسطرة وقلم الرصاص ودفاتر الرسم البياني بعد أن نسينا كل هذه الأدوات مما أثار حفيظة الطلبة عليه.

وفي الحال ذهب الطلاب إلى مدير المدرسة، وشكوا أمر مدرسهم له وقالوا عنه: إنه يثقل عليهم، وعلى الفور قام المدير بتغييره وجاء لنا بمدرس جديد فقام هذا المدرس الجديد بتدريسنا الاقترانات دون أن يعلمنا رسمها، وعندما سألناه عن السبب قال أن رسم الاقترانات ليس مهماً لأنكم لن تُسألوا عنه بالتوجيهي ولن أطلبه منكم في إمتحانات المدرسة، وما عليكم إلا أن تدرسوا ما أعطيكم إياه فقط وأخذ يملي علينا ما سيطلبه منا في الامتحان فقط ونحن ننسخ ما يقول وما يكتبه على اللوح دون أن نفهم ما نكتب.
