
بدأت تجربتي مع الدبابير منذ أيام الطفولة، عندما كان تتردد على مسامعي كلمتان تُلفظان معاً وهما (مَقْر الدبور). و(المَقْر) باللهجة العامية الفلسطينية هو حفرة في الصخر تملأها مياه الأمطار وتبقى المياه فيها حتى بعد أن تجف الأرض فتشرب منها الطيور والحيوانات وقد يشرب منها الإنسان عند الضرورة، وكنت عندما أسمع هاتين الكلمتين معاً يتبادر إلى ذهني (مكر الدبور) لأننا في فلسطين نخفف القاف إلى كاف، واحترت في الأمر وتساءلت في نفسي أيمكر الدبور كالإنسان؟ وإذا مكر الدبور فكيف سيكون مكره؟ أيهما أشد مكراً الإنسان أم الدبور؟

إلى أن جاء أحد أيام الصيف فخرجت مع أهلي لجمع القُطّين من تحت أشجار التين، وبينما كان الجميع منهمكاً في العمل عطشت وطلبت الماء فقالوا لي: اذهب إلى مَقْر الدبور فمنه تشرب وتحضر لنا معك الماء لنشرب نحن أيضاً. فأخذت الإبريق وسرت به في طريق وعر إلى أن اقتربت من مقر الدبور هذا وإذا به حفرة كبيرة في الأرض يخرج منها الماء صافياً كالزلال، وما أن اقتربت من هذه الحفرة أكثر وإذا بـ (طرد) أو مجموعة كبيرة من الدبابير يطاردني، وظل كذلك إلى أن تمكّن أحدها من لسعي في وجهي، وآخر في يدي اليمنى، فتركت الإبريق وعدت دون أن أشرب. وما أن وصلت أهلي كان وجهي قد انتفخ وأطبق على عيناي وأصبحت لا أرى إلا بصعوبة بالغة.

بعد أيام معدودة من هذه الحادثة فوجئنا بطرد من النحل يتجمع فوق شجرة الزيتون الوحيدة التي كانت مزروعة في صحن بيتنا، وعندما رأيته خفت منه وهربت بعيداً ظناً مني بأنها دبابير كالتي طاردتني بالأمس القريب عند مقر الدبور، لكن والدي صاح عليّ قائلاً: لا تخف إنه النحل الذي سيجلب لنا العسل، وفي الحال عدت إلى البيت بعد شيء من الاطمئنان والأمان.

لكنني رأيت والدي قد استعد وقام بارتداء لباسٍ خاصٍ وقام بقص الغصن الذي يحمل النحل وأفرغه في برميل من الطين يسمى (جُرُن) أُعدّ خصيصاً لذلك، وكان كل من هم حولي فرحين مستبشرين خيراً إلا أنا؛ لأن لباس والدي قد أثار توجسي فقد قام بتغطية كل ما هو مكشوفٌ في جسمه. وعندما سألتهم عن السبب قالوا لي خوفاً من لسع النحل له.

فسألت على الفور وبكل براءة الطفولة لماذا تجمعون النحل ولا تجمعون الدبابير؟ ضحك والدي على سؤالي هذا وقال: لا يجتمع الضدان يا ولدي! النحلة تعطي العسل الذي فيه شفاء للناس وتلقّح الأزهار لتعقد الثمار، وتخرج لنا على شكل فواكه وخضار. أما الدبور فيقتل النحل ويأكل ما بداخلها من عسل، ولن يهدأ له بال حتى يخرب كل بيوت النحل التي يستطيع الوصول إليها.

لم يكن والدي قد سمع بالإرهاب ولا الإرهابيين في ذلك الوقت؛ لأن أمريكا لم تكن تطلق عليهم هذا الوصف. فلو كانت أمريكا قد أطلقت عليهما هذين المصطلحين لكان والدي قد وصف الدبور بكلمة واحدة وأراحنا وأراح نفسه من مشقة الشرح، عندها سيقول لنا أن الدبور (إرهابي) والنحلة تدافع عن نفسها. “عليك أن تحمي خلية النحل هذه من الدبابير”. كان هذا أول تكليف لي من والدي فقد أرسلني إلى حرب النحل مع الدبابير وعليّ أن أحمي نفسي أولاً، وأحمي خلية النحل ثانياً من شر الدبابير.

سألت والدي على الفور:وكيف يكون لي ذلك؟ فقال: عليك أن تقطع غصناً من شجرة أوراقها كثيفة كالخروب مثلاً أو غصناً من هذه الوردة، وأشار بيده إلى شجرة ورد كبيرة في بيتنا، وتقف بجانب خلية النحل وكلما أتى دبور تقتله، فقاطعته بقولي: لكن النحل يلسع مثله مثل الدبور، فكيف لي أن أحمي نفسي منه؟ رد علي وقال: النحلة يا ولدي لا تلسع إلا دفاعاً عن نفسها، أما الدبور فهو معتدٍ أثيم، وعليك أن تقتله قبل أن يصل إلى خلية النحل هذه.

وفي اليوم التالي صحوت من نومي مبكراً كي أراقب خلية النحل فوجدت النحل قد انتشر على الأزهار كي يمتص رحيقها، بعد ذلك يدخل إلى الخلية ويفرغ حمولته فيها، ثم يخرج ثانية من غير كلل أو ملل. وما هي إلا دقائق معدودة وإذا بالدبابير قادمة ليس من أمامي ولكن من خلفي واستقر أحدها في رقبتي فأبطل سلاحي في الحال، وانقض كل دبور على نحلة فقتلها وطار بها بعيداً إلى وكره.
