في أحد الأيام كنت قد استمعتُ الى مُذيع إحدى محطات البث الإذاعية الدينية، وهو يطرح مسابقةً للجمهور جائزتها عمرة مجانية سمّاها عُمرة العُمُر. وفي الحال قفز إلى ذهني أن هذا المذيع سيخاطب فقراء القوم المُعدمين الذين لا تسمح لهم حالتهم المادية بزيارة المقدسات الإسلامية، وبذلك تكون هذه المحطة الإذاعية وهذا المذيع قد ابتكرا طريقة جديدة لأعمال البر والإحسان من غير مَنّ ولا أذى.

وإذا بحضرة المذيع يعرض مسابقته الجليلة إلى كل مالك سيارة تحمل رقماً يحتوي على رقمين من أرقام تلفون إذاعتة الغرّاء، ويطلب من كل من يحقق هذين الشرطين أن يتصل به فوراً ليدخل بعدها في قرعة ليفوز بهذه العمرة. أكاد أجزم أن كل من كان يطمح في عمرة مجانية ولا يمتلك سيارة فوجئ وانتكس وقام بتغيير مُؤشر الراديو عن هذه المحطة مخاطباً نفسه بالقول: حسبيَ الله ونعم الوكيل.

أما من هو مثلي لا يريد أن يدخل هذه القرعة، حتى لو كان يملك أكثر من سيارة، فقد بقيَ مُستمعاً لهذه المحطة لمتابعة أحداث المسابقة، حتى اتصل مُستمع فاضل بالمذيع الأفضل قائلاً له:السلام عليكم ورحمة الله، فردّ عليه المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أخي في الله فلان، فقال المُتصل: إني أحبُك في الله يا أخي علان، فأجابه المذيع على الفور قائلاً: وأنا يا أخي والله العظيم إني لأحبك في الله أيضاً.

سُررت من هذا الحوار الشيق الذي يقوم على المحبة في الله بين مُستمع فاضل ومُذيع أفضل، وقررت مُتابعته على الهواء مُباشرةً حتى النهاية، لا بل فضلته على موجز لأهم الأخبار العالمية من غير هذه المحطة. قال المتصل بعدها: يا أخي فلان  إن معظم المستمعين لكم ولإذاعتكم هم من سائقي سيارات الأجرة الفقراء إلى الله الذين يمكثون في سياراتهم عشر ساعات في اليوم الواحد على الأقل.

إن هؤلاء الناس، وبحكم طبيعة عملهم، هم أكثر من يستمع إلى محطتكم ومعظم هؤلاء سائقين كما تعلم، أو لا تعلم، هم فقراء الى الله تعالى ولا يملكون سياراتهم التي يعملون عليها، فإذا فازت سيارة من تلك السيارات فسيأخذ مالك السيارة هذه الجائزة ولا يستفيد منها السائق الذي يكون قد اشترك في هذه المسابقة. لهذا نحن نطمع من سيادتكم أن تقوم بتغيير شروط هذه المسابقة بحيث تصبح: يفوز بالجائزة من يتصل أولاً سواء كان مالكاً للسيارة أو سائقاً لها كي نستفيد من هذه الجائزة المباركة. 

ردّ عليه المذيع قائلا: يا أخي في الله بإمكانك أن تأخذ تنازلاً من مالك السيارة يُفيد بفوز السائق إذا فازت سيارته بهذه العمرة. لم أستطع السكوت فحاولت الاتصال بالمذيع فلم أفلح، فعرفت نفسي على الفور بأنني واحدٌ ممن لا يحبهم في الله، وبدأت أحاور نفسي بنفسي مُوجهاً سؤالاً إلى المذيع المحترم: ومن أدراك أن مالك السيارة سيعطي الجائزة لسائقها عِندئِذ؟ تخيلت السائق المسكين الذي يعمل بمرتب عند مالك السيارة عندما يترك عمله ويتوجه إلى بيت المالك قائلاً:

أنا قدّمت رقم سيارتك للفوز في عمرة العمر فاكتب لي تنازلاً عن هذه العمرة إذا فازت سيارتك، عندها سيتهم صاحب السيارة سائقه بلوثة في عقله وسيقوم باستبداله بسائق آخر ولو بعد حين. أما إذا كان  هذا السائق ضامناً للسيارة التي يعمل عليها وذهب عند صاحبها ليتنازل له عن العمرة المنتظرة فيكون بذلك قد أضاع ساعة على الأقل من عمله، وبالتالي سيقلّ دخله. وعلاوة على ذلك، سيتهمه صاحب السيارة بخفة العقل وسيقول له اذهب واشتغل أفضل لك من الشكوى والتذمر آخر النهار من قلة المردود المادي.

بربكم أية عمرة هذه التي ستسبب وجعاً لرأس صاحبها؟ لا بل تهدده في رزقه وفي قوت يومه، وتتهمه في لوثة عقله قبل أن يفوز بها، هذا إذا فاز بها أصلاً. أما أنا فعدت بذاكرتي إلى الوراء فتذكرت قول من قال: إن الأغنياء لا يُصاهرون إلا بعضهم البعض خوفاً على ضياع ثرواتهم ووقوعها بيد الفقراء بعد موتهم، وأصبحت بعد سماعي هذا الحوار الذي كان قد دار بين المذيع وسائق التكسي أخاف من هؤلاء الأغنياء من أن يحتكروا أماكن العبادة لأنفسهم ولأصهارهم ويبقى الفقراء على حالهم. 

الدنيا حكايات