ولـدي الـعـزيـز

عليك أن تفهم يا ولدي منذ البداية أن العلاقة بين الولد والوالد هي كالعلاقة بين البيضة والدجاجة؛فالدجاجة كانت في يوم من الأيام بيضة والبيضة ستصبح في أحد الأيام ديكاً أو دجاجة!وكذلك الولد سيصبح في يوم من الأيام والداً بعد أن كان ولداً والبنت ستصبح أماً بعد أن كانت بنتاً والأغرب من ذلك أنه قد يكون الوالد ولداً أو الأم بنتاً في نفس الوقت فيزداد الأمر صعوبة.

والصعوبة في الموضوع تكمن في الموازنة بين الدورين؛فالإنسان بطبعه ميّال للإنسلاخ عن الطبقة التي كان يعيش فيها حتى أنه ينسى همومها لا بل قل:إنه قد ينساها بالكامل وبسرعة كبيرة فالمعلم مثلا ينسى أنه كان طالباً في يوم من الأيام!لا بل قد ينسى هموم الطلبة ومشاكلهم والعجيب في الأمر أنه لو تحوّل هذا المعلم إلى طالب لنسي أنه كان معلماً في يوم من الأيام ونسي هموم المعلمين ومشاكلهم.

ولتسهيل الحوار بيننا لا بد من مُسلمة نتفق عليها جميعاً وهي أن الوالد يضع جُلّ اهتمامه في ولده فيُصوّره عند ولادته وينتظر على أحرّ من الجمر كلماته وخطواته الأولى ويداعبه كي يحصل على حتى ابتسامة منه وعندما يكبر يضعه في أحسن المدارس والجامعات وعندما يتخرج يبحث له عن أحسن الوظائف ويختار له أو يساهم في اختيار زوجة يراها مناسبة ثم يبدأ في انتظار الحفيد واذا تأخر هذا الحفيد يُصاب بالقلق وإذا تعذر وجوده سيقوم بمحاولة تزويج ابنه مرة ثانية كي يأتي هذا الحفيد ولو أطال الله في عمره أكثر لبدأ ينتظر ابن الحفيد وهكذا.

والمسلمة الثانية التي لا بد أن نتفق عليها أيضاً ونقر ونعترف بها هي أن الولد عندما يتزوج يصبح كمن يسير في طريقٍ باتجاه واحد فإذا فكر بالعودة فستكون عودته بالإتجاه المُعاكس مما يُعرّضه إلى مُخالفتين:المخالفة الأولى من قِبل شرطي السير والمخالفة الثانية من قبل زوجته فمنهم من يخاف (المُخالفة) فلا يعود إليها ثانية ومنهم من يدفع هذه المخالفة أول مرة فيجدها باهظة الثمن عالية التكاليف فلا يكررها ثانية ومنهم من يتناسى ما ترك ورائه من أهل ويريح نفسه ومنهم من ينبهر في الطريق الجديد وينشغل بمن هم فيه وينسى ما ترك في بيته القديم.

خلاصة القول الذي يجب أن يفهمه الجميع:إن محبة الوالدين لأولادهم منحة ربانية كان قد أودعها الله في قلوبهم فهما سيبذلان قصارى جهدهما لتوفير كل شيء لأولادهم سواءً طلبوا هذا الشئ أم لم يطلبوه وسيبذلان الغالي والنفيس وبنفس راضية لإسعاد أولادهما ولن يقدموا هذا الشيء لإنسان آخر حتى لو كان أحد والديهم!أما محبة الأولاد لوالديهم فهي تكليف من الله تعالى مثلها مثل سائر العبادات الأخرى يؤجر عليها إن فعلها ويؤثم إن تركها.

ولحل هذا اللغز الأبدي بين الآباء والأبناء يجب أن نعترف أولاً أن الوالدين يستطيعان أن يُرضيا جميع أولادهما مهما كان عددهم؛لأن مطالبهم بسيطة!لكن الأولاد مجتمعون لا يستطيعون إرضاء والديهم؛لأن سقف مطالبهم عالٍ تماماً كالمعلم لا يمكن أن يرضى عن المستوى العلمي لطلاب صفه فكلما ارتفع هذا المستوى قام برفع سقف مطالبه أكثر بينما غالبية طلاب صفه يرضون عنه لأنه يحقق طموحهم الآني البسيط.

لِيعلم الجميع أن لا مقارنة بين جيلين أبداً فكلاهما يسير على دائرةٍ واحدةٍ ولا مقارنة بين الذين يسيرون على الدائرة لأن من يكون اليوم في أسفلها سيكون غداً في أعلاها وما يراه الصاعد غير ما يراه النازل ولِيعلم الجيلان أنهما كمن يلعب مباراة رياضية الأولاد ذاهبون وهمّهم الفوز في المباراة والحصول على الكأس المعنوي والمادي وتحقيق أحلام وردية شخصية ووطنية أما الآباء فقد لعبوا وانتهت المباراة عندهم منذ زمن بعيد فهم إما أن يكونوا قد حققوا الفوز فذاقوا طعمه وملّوه وإما أن يكونوا قد فشلوا في تحقيقه فتعلموا أن الذي مضى لن يعود ثانية.

يبدأ الإنسان حياته برحلة صعود إلى أعلى حتى يصل إلى القمة ثم يعود لينزل إلى أن يصل القاع ويختلف الناس في تحديد ارتفاع هذه القمة والزمن اللازم للصعود أو الهبوط والصعود يحتاج إلى سرعة ابتدائية تختلف من إنسان إلى آخر حسب موقعه الإجتماعي وقدراته بعكس الهبوط الذي لا يعتمد إلا على إرتفاع القمة التي وصل إليها ذلك الإنسان وينسى معظم الناس أن الأولاد صاعدون لا بل منهم من وصل إلى القمة وتربّع عليها ونسي من كان قد أوصله إليها من الآباء الهابطون.

لهذا؛سيكون مطلوباً من الأولاد عند وصلهم لآبائهم وأمهاتهم ما هو مطلوب من الطيّار قبل الهبوط في مطار جديد إذ يجب عليه أن يُخفض من سرعته ويستطلع أجواء المطار الجديد ليستطيع التأقلم مع الأرض بعد أن كان مُحلقاً في السماء!لهذا فعلى الأولاد أن يفهموا إن هموم آبائهم وأمهاتهم غير همومهم فهموم الآباء والأمهات أصبحت صغيرة أكثر مما يتصورون فقد يوجد أبٌ همّه الوحيد ارتداء ملابسه وحذائه فهو لا يستطيع ذلك لخلل أصاب يده أو رجله وقد توجد أمٌ همها الوحيد كيف تتناول طعامها بعد أن فقدت جميع أسنانها؟وقد يوجد أبٌ يحتاج إلى من يتكلم معه ليحُكّ ذاكرته ويعيد إليه نسمات كانت عليلة من حياته السابقة بعد أن استهان بعقله كل من هم حوله.

هذه أمورٌ لا يشعر بها الأبناء فيأتي الولد ليسرُد أمام أبيه أو أمه بطولاته وبطولات زوجته وأولاده التي أصبحت خارج اهتمامات والديه الآن لأن أحلامهم بدأت تتلاشى وبدؤوا ينتظرون يوم الرحيل وقد ينسى الولد أن أبويه لن يسمعاه لأن كل واحدٍ منهما أصبح قلقاً ومشغولاُ في اهتماماته الشخصية البسيطة فمنهم من أصبح يرى القريب بعيداً والبعيد قريباً ومنهم من أصبح يمشي على ثلاثة بعد أن كان يمشي على اثنتين ومنهم من أصبح بحاجة إلى من يُذكره بمواعيد الصلاة بعد أن فقد سمعه.

ولا يُقدّر الأبناء موقف والديهم بل يزيدوا الطين بلة عندما يتهمونهم بالتمييز بينهم وينسون بأن أحبهم إليهم أقربهم منهم!ويتهمونهم أيضا بأنهم يحبون بناتهم أكثر من أبنائهم وينسى البنون أن البنات أقرب إلى هموم الأهل البسيطة وأنهن يُلبّينَ متطلبات الأهل أكثر من البنين في نهاية العمر والأنكى من ذلك كله أن يتهم الأبناء آبائهم بأنهم أصبحوا خارج اهتماماتهم وينسون قول من قال:أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض لكنني أريد من كل ولد أن يسأل نفسه متى تخرج الكبد من اهتمامات صاحبها؟.

وعلى الأبناء أن يفهموا أن كلّ واحد منهم يسير على دائرة مركزها والديه ونصف قطرها يُحدّده هو بنفسه وكلما إقترب هذا الولد من المركز أكثر كلما أحبوه أكثر وعليهم أن لا يلقوا بالتهم جزافاً على والديهم ليبرروا فشلهم في إرضائهما وعليهم أن يصغروا بأنفسهم وأحلامهم أمام والديهم ويشعرونهم بأنهم ما زالوا صغاراً وبحاجة إلى آرائهم ولا زالوا يعتبرونهم المصدرالوحيد للتشريع بعد أن رأوا بأعينهم تعدد السلطات وظهور الانقلابات الأسرية الجديدة.

وأخيراً أدعوا كل ولد له أب أو أم على قيد الحياة أن ينزل من برجه العاجي الذي يعيش فيه ويتفهم أحلام والديه الصغيرة وطموحاتهما الجديدة بعد أن أصبحت جداً بسيطة وليعلم هؤلاء الأبناء أن بر الوالدين لا يكون بقضاء حوائجهم المادية فحسب بل عليهم أن يفهموا أن والديهم أصبحوا يعيشون خارج دنياهم ولم يعودوا يفرحون كما يفرحوا هم وأولادهم وزوجاتهم فهم يُصلون صلاة المُودّع ولسان حالهم يردد أن آخر دعواهم الحمد لله.

وللأسف الشديد أن معظم الأولاد في هذه الأيام فهموا أو فُهّموا أن برّ الوالدين هو قاعدة ثابتة في كل زمان ومكان تنطبق على جميع الآباء والأمهات وبناءاً عليه وضعوا كل الآباء والأمهات في سلةٍ واحدة ونسوا هؤلاء الأولاد أو تناسوا أن لكل أب خصوصيةُ يختلف بها عن الآباء الآخرين وكذلك لكل أم خصوصيتها التي تختلف بها عن الأمهات الأخريات فليس بالضرورة أن يرضي أباك أو ترضى أمك إذا عاملتهما كما يعامل صاحبك أباه أو أمه.

وأخيراً وليس آخراً عليك يا ولدي أن تفهم وتتفهم والدك من سلوكه معك فإذا كان قد وبخك والدك في يوم من الأيام فاعلم بأنه لا يكرهك بل يريد مصلحتك وإذا ضغط عليك فهو يتمنى لك الأحسن وإذا صمت في وجودك يوماً فهو يفكر في مستقبلك وإذا بخل عليك فهو يبخل على نفسه أولاً وإذا تنهد في حضرتك فاعلم بأنك أنت السبب.
