
كنتُ صغيراً في السن عندما أجبرتني الظروف على السير مشياً على الأقدام في منطقة سهلية بين مدينة (نابلس) وبلدة (حوارة) ليلاً في فلسطين في ربيع عام 1966 وكان بمحاذاة هذا الشارع منزل جميل يحرسه كلب أبيض، لو وقفتُ بجانبه لكان أطول مني في ذلك الوقت. كان أصحاب الكلب يُقيّدونه في النهار ويُطلقون سراحه في الليل. وعندما شعر الكلب بوجودي من على بُعد بدأ ينبح ليُذكّرني بوجوده، وليُنبّه صاحبه أيضاً أن هناك خطراً ما يجب أن يستعدّ له. بدأ صاحبه يراقب الموقف عن بعد، فكان كلما اقتربت من هذا المنزل أكثر كلما علا نباح الكلب أكثر، وزادت مراقبة صاحبه له إلى أن أصبحتُ أمام البيت تماماً فانقض عليّ ورماني أرضاً دون أن يعضّني.

حاولت أن أدافع عن نفسي فلم أفلح في صد هذه الهجمة الكلبية الليلية الشرسة، لعدم توفر أي من أدوات الدفاع عن النفس في مثل تلك الحالات كالعصا أو الحجر، فالأرض سهلية تخلو من الحجارة ومن العصي، لكن صاحبه أعفاني من هذا كله وتقدّم نحوي بلمح البصر وحملني بين يديه، وأدخلني إلى فناء منزله، وأصرّ على أن يسقيني الماء من طاسة الرجفة، وذلك لطرد الخوف الذي استقر في داخلي. وبعد أن شربت الماء شكرت الرجل على حسن تصرفه معي وواصلت المسير إلى أن وصلت البيت في ساعة متأخرة من الليل.

عندما وصلت البيت بدأت أروي لهم ما كان قد حصل معي، وقبل أن أنهي كلامي وبمجرد سماعها كلمة كلب أسرعت أمي وأخرجت طاسة الرجفة ـ والتي نادراً ما كانت تخرج من مخبئها ـ وملأتها بالماء وقالت لي: اشرب، فقلت لها: صاحب الكلب أسقاني، لكنها أصرّت عليّ أن أشرب أمامها لتتأكد بنفسها فشربت، وبسرعة البرق انتشر الخبر في القرية، فتجمع الناس من حولي وأخذ كل واحد منهم يلقي بدلوه في الموضوع، فمنهم من هنأ والدتي بسلامتي من هذا الحادث بقوله: الحمد لله على سلامته يا أم محمد، إن الله يُحبك ويُحبه تخيّلي لو عضّه ذالك الكلب اللعين وصار إبنك ينبح مثله ماذا كنت ستفعلين؟ وكانت هذه العبارة قد تردّدت على مسامعي بعدد الناس الذين تواجدوا في بيتنا في تلك الليلة.

ثم ساد الصمت برهة من الزمن بعد أن انشغل الحضور بشرب الشاي الذي أعدته لهم أمي على عجل، لكن هذا الصمت لم يدم طويلاً بعد أن قطعه صوت رجل في الخمسين من عمره حين قال: عندما عضّني الكلب قبل سنتين أعطوني حوالي عشرين إبرة، واسترحت في البيت شهرين كاملين. تخيلوا لو عضه ذلك الكلب وأقعده في البيت مثلي شهرين متتاليين فسيفصلونه من المدرسة فوراً وما أن سمعت أمي حديث هذا الرجل حتى وجدتها تصيح من بعيد: مُستحيل أن يغيب ابني عن المدرسة. أرجوكم أن يبقى الموضوع بيننا سراً كي لا يعلموا في المدرسة ماذا حدث للولد.

كان هذا الموضوع بسيطاً جداً فقد دفعني كلب في الشارع وحملني صاحبه، إلا أن الناس كانوا قد ضخّموا هذا الموضوع لي ولأنفسهم، ولم يكتفوا بذلك بل افترضوا لي ولهم أشياء من عندهم لم تحدث، وبنوا عليها نتائج واتخذوا عني قرارات وعاشوا وأعاشوني في الأوهام التي كانوا قد صنعوها لي ولأنفسهم، وخلقوا عندي عقدة الخوف الأبدية من الكلاب بعد هذه الحادثة البسيطة.
