
كبر الأولاد وتعلموا واشتغلوا وتزوجوا ورحلوا من بيت والدهم واحداً واحداً، وعاد الوالدان كما بدآ وحيدان في بيتهما. وفي يوم من الأيام، حضر أحد هؤلاء الأولاد إلى بيت والديه لزيارتهما والاطمئنان عليهما. وبعد أن قامت الأم بواجبها تجاهه تذكّر أن والده لم يدخل بيته قط بعد أن تزوج واستقل في بيته، فأصرّ ذلك الولد على أن يقوم والده بزيارته في بيته ويتناول معه طعام العشاء ثم ينام عنده لكن الأب اعتذر لولده عن هذه الزيارة بطريقة مؤدبة وقال له: يا بنيّ إذا كبر الشخص في السن فلا يتسع له بيت كبيته.
لكن الولد أصرّ على زيارة أبيه له في بيته وأكمل قائلا: كما تعلم يا والدي أن اليوم الخميس وغداً الجمعة وما عليك إلا أن تُحضر ما يلزمك من أغراضك الشخصية لتنام عندنا، وبعد صلاة الجمعة أعيدك إلى بيتك سالماً غانماً إن شاء الله، وقال مُمازحاً أمه: تعال يا والدي عندنا كي تشعر أمي بأهميتك في حياتها بعد أن انشغلت عنك في أولادها وبناتها وأحفادها كما تُحب دائماً أن تقول عنها.
اقتنع الأب بما قاله له ولده وأُعجب أكثر بولده لما قاله على سماع أمه وقال في نفسه: سأجعل من هذا اليوم أولّ درس لزوجتي، ولو أنه جاء مُتأخراً كي تعرف بأهميتي في حياتها، ورفع من صوته قليلاً ليسمعه الآخرون ثم تابع كلامه قائلاً: في البداية يُعلّم الآباء أولادهم وفي النهاية عندما يكبر الأولاد ويكبر الآباء تنعكس الآية فالأولاد هم من يُعلّمون آبائهم وأمهاتهم، وأنا سأتعلم منك يا ولدي وسأذهب معك إلى بيتك.

وعندما وصلا إلى البيت فتح الولد الباب وأجلس والده في غرفة الاستقبال وفتح له التلفاز وقال له: أهلاً وسهلاً ودخل ليُخبر زوجته وأولاده بأن والده سيقضي الليل عندهم، فاحتجت زوجته في الحال وقالت له: كيف تقوم بهذا العمل وحدك دون أن تشاورني في ذلك؟ لكنه لم يكترث بما قالت له زوجته ولم يجبها على سؤالها. وفي الحال ذهبت زوجة ابنه إلى غرفة الاستقبال فسلمت على والد زوجها، وخرجت بسرعة وأرسلت أولادها تباعاً ليسلموا على جدّهم، وجلسوا حوله فرحين مبسوطين بقدومه لكنها بعد دقائق معدودة استدعتهم إلى النوم؛ لأن موعد النوم قد حان. ثم حضر ابنه وجلس بجانب والده وأخذ يتابع مباراة رياضية فهو من مشجعي ريال مدريد دون أن يهتم بوالده.

وبعد أن أشرفت زوجة الإبن بنفسها على نوم أولادها وتأكدت من نومهم وقفت بالباب دون أن تدخل الغرفة التي كان يجلس فيها زوجها ووالده وقالت لهما: عمّاه أتريد أن تتناول طعام العشاء أم أنك تحب أن تنام خفيفاً كوالدي؟ ولم يسمع الابن ما قالته زوجته بعد أن أحرز فريقه هدفاً ثانياً في المباراة التي يتابعها، فازداد حماساً وتشجيعاً، فقال لها والد زوجها: أنا الآن شبعان يا بنيتي ولا أريد أن أتناول طعام العشاء هذه الليلة.

سمع الولد جواب أبيه ولم يسمع سؤال زوجته فتدخل ولده في الحال وقال: ما بصير لازم تتعشى يا والدي، وقبل أن ينهي الزوج كلامه وقبل أن يسمع جواب أبيه كانت زوجته قد أحضرت لوالده فراشه الذي سينام عليه، وقالت: أنا أعرف أن كبار السّن يُحبون النوم مُبكّراً واستدعت زوجها في الحال قائلة: دع والدك يرتاح في فراشه بعد أن تعب من الجلوس على الكنبة، وقام الزوج وزوجته بعد أن قالا له معاً: تصبح على خير فرد عليهما: وأنتما من أهله.
بقي الوالد وحيداً في غرفة الضيوف فأقفل التلفاز وأطفأ الأنوار ورفع الستارة وبدأ ينظر إلى السماء ينتظر بزوغ الفجر، كي يعود إلى بيته في الصباح، وهيهات أن يطلع فجر على فلاح نام دون عشاء، وأمضى الليل كله ينتظر بزوغ الفجر. وأخيراً سمع المُؤذن وهو يرفع الأذان فاستبشر خيراً وفتح الباب بخفة كي لا يصحو عليه أحد وخرج من بيت ولده فكان أوّل الرّكاب في سرفيس المنطقة التي يسكنها.
