قُل لي بربّك يا رجل؟


1336057984p3381l
كيف تشكو الوحدة وحولك هذا العدد الهائل من الناس؟

صاحبنا: دعنا الآن من الماضي الجميل بكل حسناته يا سيدي ولنعش الحاضر كما هو لكن قبل ذلك كله أريد منك أن تجيبني على سؤال كان قد حيرني الآن فقل لي بربك يا رجل كيف هان عليك أن تصيح على شخص لا تعرفه يسير في الشارع؟ كي تحادثه وتجلس معه وحولك هذا العدد الهائل من هؤلاء الرجال والنساء والأولاد والبنات والأحفاد والأخوة والأخوات والأقارب والجيران؟(وأشار صاحبنا إليهم بيده بعد أن شاهدهم يسرحون ويمرحون من حوله).

فهرس
بلمح البصر إنتهى مشوار حياتي إلى موت بطيء

الرجل المسن: آآآآخ … آخ …. يا ولدي بلمح البصر وبجرة قلم كان قد انتهى مشوار حياتي إلى موت بطيء كما تراه أنت اليوم.

صاحبنا: ومن أماتك يا رجل؟ فَالله وحده هو الذي يحيي ويميت وليس أحد سواه.

الرجل المسن: أماتني يا ولدي كل من تراهم يسرحون ويمرحون من أمامك ومن خلفك ومن على يمينك ومن على يسارك صغارهم قبل كبارهم نسائهم قبل رجالهم.

040d0a3c2174e80
الإنسان كحبة ليمون يحتفظ الناس بها لعصارتها فقط

صاحبنا: أَيعْقل يا سيدي أَن يُمِيت الإِنسَان منا من كان قد أوجده وكبّره وربّاه وعلّمه في هذه الحياة؟.

الرجل المسن: إعلم يا ولدي (إن كنت لا تعلم) أن الإنسان منا في هذه الحياة يشبه حبة الليمون تماماً يحتفظ  بها الأهل والأقارب والأصدقاء لما فيها من عصارة فقط وكلما كانت هذه الحبة ممتلئة بالعصير أكثر كلما إحتفظ بها الأهل والأقارب والأصدقاء أكثر وعندما يأخذوا منها كل عصارتها لا يعنيهم أين ستكون هذه الحبة ولا يهمهم مكان إقامتها؟.

صاحبنا: حديثك هذا يا رجل مليء بالحكمة والموعظة الحسنة وينم عن تجربة غنية مليئة بالأحداث والتجارب والخبرات فحدثني يا رجل أكثر عن هذه الحياة إذا سمحت.

bebe1
ما أن ولدت حتى وجدت الجمِيع من حولي يفركون شفاهي 

الرجل المسن: ما أن ولدتني أمي يا ولدي حتى وجدت الجمِيع مِن  مَن هُم حولي في استقبالي ملاعبين مداعبين لي يفركون شفاهي وخدودي ويضغطون على فمي وأسناني كي يعلمونني الابتسام وكانوا في ذلك الوقت يبتسمون لي بل يضحكون معي أكثر مما ابتسم لهم بكثير لا بل كانوا يطيرون فرحاً ودهشة عندما كنت ابتسم لأحدهم وبعد أن علّموني الابتسام أصبح شغلهم الشاغل وهمهم الوحيد أن يعلّمونني الكلام فأصبحوا يُغيّرون من كلامهم ويتكلمون معي بلغتي المكسرة تشجيعاً لي على النطق والكلام.

photo1371720264_599
وجهزوا لي غرفة نوم قبل أن أدخل حياتهم 

ولما كبرت أكثر وجدتهم كانوا قد جهزوا لي غرفة نوم قبل أن أدخل إلى حياتهم ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتجهيزها بكل أنواع الألعاب كي أتسلى بها في حال غيابهم عني وما أن بدأت في المشي حتى وجدتهم يمسكون بيدي ويسيرون بي بين الجدران مرة وفي الشوارع مرات كي يعلمونني المشي وأنا صغير في السن وما أن كبرت أكثر حتى أصبحت طلباتي عندهم كلها أوامر لا بل أصبحوا يأتون لي بأشياء لم أفكر بها ولم أطلبها منهم.

avatar_799593
لم أبخل على زوجتي وأولادي وإخوتي وأخواتي وأقاربي 

وبعد أن أصبحت شاباً يا ولدي حاولت أن أعتمد على نفسي في وطني فلم أجد فيه ما يحقق طموحاتي فتغربت إلى بلاد الله الواسعة وتحملت قساوة الغربة وشظف العيش فيها وهناك بعد أن كوّنت نفسي وأمّنت مستقبلي تزوجت ولم أبخل على زوجتي بشئ فأعطيتها إسمي ومالي وبيتي وعنواني ولم تكن تطلب شيئاً إلا وكنت قد أحضرته لها من الإبرة إلى السيارة وبعد أن أنجبت البنين والبنات لم أبخل على أحد من أولادي وبناتي بشئ فبعد أن علمتهم وأوصلتهم بر الأمان تزوج الأولاد وتزوجت البنات وخلفوا البنين والبنات وامتد عطائي إلى أحفادي أيضاً لا بل إلى كل من كان يحتاج من إخوتي وأخواتي وأقاربي وأصدقائي وحتى جيراني.

cartoon-man-face-profile-wearing-cap-2-12964-medium
وعندما إقتربت من النهاية أكثر نسيت الإبتسام

وعندما إقتربت من خريف العمر انقلبت الأمور رأساً على عقب فنسيت الابتسام لأنني لم أجد من كل هؤلاء من يبتسم لي أو يحاول أن يعيد لي الابتسام ونسيت الكلام بعد أن ابتعد عني كل من يدعي قرابتي فتيبس لساني في حلقي ولم أعد قادراً على ضبط مخارج الحروف حتى أنني بدأت أتلعثم في الكلام بين الحين والآخر ولم أجد أحداً منهم يُصحح لي كلامي أو يضبته وأصبحت أتعثر في مشيتي ولم أجد أحداً منهم يسندني أو يساعدني في مشيي وعندما أصبحت غير قادر على تناول طعامي وشرابي وارتداء ملابسي بعد أن خانتني يداي في مسك الأشياء لم أجد يا ولدي أحداً منهم يقف بجانبي أو يساعدني.

images
وابتعد عني كل من كانوا يتمنون مني ولو ابتسامة

وابتعد عني كل من كانوا يتمنون مني ولو إبتسامة ولم يكتفوا بذلك بل فرضوا علي العزلة مما جعلني أعود إلى الماضي البعيد كي أعيشه بدلاً من الحاضر وكانوا بذلك قد أوقعوني في المحظور دون أن يدروا لأن من كنت قد عايشتهم في الماضي هم أموات في هذه الأيام فعشت بين الأموات أتذكر أكلهم وشربهم وكلامهم وقصصهم وحيلتهم مما جعلني أهرب من الواقع وأعيش في الماضي فاتهموني بالخرف وشددوا علي الخناق أكثر.

d93da3794440977e1588bde5566560861
أصبحت أتمنى أن أكون فطة ليلاعبني الصغار

ومما زاد الطين بلة أن كل من هم حولي مقتدرون مادياً ولكي يغسلوا أيديهم من غلبتي قاموا أمام الناس رياءاً وأحضروا لي خادمة فلبينية لا أفهم عليها ما تقول ولا تفهم علي ما أطلبه منها وقالوا لها أن كل المطلوب منها أن ُتبقي على هذا الرجل حياً لا أكثر ولا أقل فأصبحت بعدها لا أقارن نفسي بالبشر بل أصبحت أتمنى أن أكون قطة كي يلاعبني الصغار والكبار على حد سواء.

1000748
أصبحت أحسد الكلب عندما يطلبون التنفيس عنه 

لا بل أصبحت في بعض الأيام يا ولدي أحسد هذا الكلب (وأشار بيده إلى كلب مربوط بجانبه) عندما أسمع زوجة إبني وهي تطلب من زوجها أن ينفس عن هذا الكلب بعد يوم غائم وماطر وأصبحت أتمنى أن يعاملني كل من هم حولي مثل ما يعاملون هذا الكلب المحظوظ لهذا يا ولدي أصبحت أطلب الموت قبل قدومه وأنا حيّ أرزق ليس حبّاً بالموت نفسه بل حباً في الابتعاد عن كل من تراهم من أهل وأقارب وأصدقاء وحتى جيران يصولون ويجولون من حولي.

imagesE69RH12D
لقد رأيتك من بعيد كشيخ عرب

صاحبنا: دعني أكون صريحاً معك أكثر من اللزوم يا سيدي فأنا لا أصدق كل ما تقول لأني رأيتك من بعيد وأنا أسير باتجاهك كشيخ عرب (اللهم لا حسد) فأنت ما شاء الله تجلس على كرسي وأمامك طاولة مستديرة وفوقها إبريق من الماء البارد وبجانبه كأس من زجاج لتشرب منه كلما شعرت بالعطش وحافظة للقهوة كي تبقى ساخنة لتشرب منها وقتما تشاء (لا بل تسقي غيرك منها إن أحببت) وفوق ذلك كله ترعاك خادمة فلبينية جميلة وهذا كل ما يتمناه كل رجل مسن مثلك.

thumb.php

الرجل المسن: آآآخ … آخ … يا ولدي ألم تسمع بقول الشاعر العراقي معروف الرصافي عندما قال: لا يخدعنك هتاف القوم للوطن +++ فالقوم في السرّ غير القوم في العلن ألم تسمع كذلك بالمثل العربي المشهور الذي يقول: إللي بدري بدري وإللي ما بدري بقول على كف عدس فإذا أردت أيها القارئ أن تدري بما هو يدري فعليك أن تقرأ المزيد لكي تدري.

بدري عليك يا ولدي

الـكـلـب الأبـيـض


images
الكلب الأبيض

كنتُ صغيراً في السن عندما أجبرتني الظروف على السير مشياً على الأقدام في منطقة سهلية بين مدينة (نابلس) وبلدة (حوارة) ليلاً في فلسطين في ربيع عام 1966 وكان بمحاذاة هذا الشارع منزل جميل يحرسه كلب أبيض، لو وقفتُ بجانبه لكان أطول مني في ذلك الوقت. كان أصحاب الكلب يُقيّدونه في النهار ويُطلقون سراحه في الليل. وعندما شعر الكلب بوجودي من على بُعد بدأ ينبح ليُذكّرني بوجوده، وليُنبّه صاحبه أيضاً أن هناك خطراً ما يجب أن يستعدّ له. بدأ صاحبه يراقب الموقف عن بعد، فكان كلما اقتربت من هذا المنزل أكثر كلما علا نباح الكلب أكثر، وزادت مراقبة صاحبه له إلى أن أصبحتُ أمام البيت تماماً فانقض عليّ ورماني أرضاً دون أن يعضّني. 

20829
الحجر من أدوات الدفاع عن النفس في مثل تلك الحالات

حاولت أن أدافع عن نفسي فلم أفلح في صد هذه الهجمة الكلبية الليلية الشرسة، لعدم توفر أي من أدوات الدفاع عن النفس في مثل تلك الحالات كالعصا أو الحجر، فالأرض سهلية تخلو من الحجارة ومن العصي، لكن صاحبه أعفاني من هذا كله وتقدّم نحوي بلمح البصر وحملني بين يديه، وأدخلني إلى فناء منزله، وأصرّ على أن يسقيني الماء من طاسة الرجفة، وذلك لطرد الخوف الذي استقر في داخلي. وبعد أن شربت الماء شكرت الرجل على حسن تصرفه معي وواصلت المسير إلى أن وصلت البيت في ساعة متأخرة من الليل. 

DSC00119
 طاسة الرجفة 

عندما وصلت البيت بدأت أروي لهم ما كان قد حصل معي، وقبل أن أنهي كلامي وبمجرد سماعها كلمة كلب أسرعت أمي وأخرجت طاسة الرجفة ـ والتي نادراً ما كانت تخرج من مخبئها ـ وملأتها بالماء وقالت لي: اشرب، فقلت لها: صاحب الكلب أسقاني، لكنها أصرّت عليّ أن أشرب أمامها لتتأكد بنفسها فشربت، وبسرعة البرق انتشر الخبر في القرية، فتجمع الناس من حولي وأخذ كل واحد منهم يلقي بدلوه في الموضوع، فمنهم من هنأ والدتي بسلامتي من هذا الحادث بقوله: الحمد لله على سلامته يا أم محمد، إن الله يُحبك ويُحبه تخيّلي لو عضّه ذالك الكلب اللعين وصار إبنك ينبح مثله ماذا كنت ستفعلين؟ وكانت هذه العبارة قد تردّدت على مسامعي بعدد الناس الذين تواجدوا في بيتنا في تلك الليلة.

imagesK8RHL52T
الشاي الذي أعدته لهم أمي على عجل

ثم ساد الصمت برهة من الزمن بعد أن انشغل الحضور بشرب الشاي الذي أعدته لهم أمي على عجل، لكن هذا الصمت لم يدم طويلاً بعد أن قطعه صوت رجل في الخمسين من عمره حين قال: عندما عضّني الكلب قبل سنتين أعطوني حوالي عشرين إبرة، واسترحت في البيت شهرين كاملين. تخيلوا لو عضه ذلك الكلب وأقعده في البيت مثلي شهرين متتاليين فسيفصلونه من المدرسة فوراً وما أن سمعت أمي حديث هذا الرجل حتى وجدتها تصيح من بعيد: مُستحيل أن يغيب ابني عن المدرسة. أرجوكم أن يبقى الموضوع بيننا سراً كي لا يعلموا في المدرسة ماذا حدث للولد.

1416224900-opticalillusions
 أوهام صنعوها لي ولأنفسهم

كان هذا الموضوع بسيطاً جداً فقد دفعني كلب في الشارع وحملني صاحبه، إلا أن الناس كانوا قد ضخّموا هذا الموضوع لي ولأنفسهم، ولم يكتفوا بذلك بل افترضوا لي ولهم أشياء من عندهم لم تحدث، وبنوا عليها نتائج واتخذوا عني قرارات وعاشوا وأعاشوني في الأوهام التي كانوا قد صنعوها لي ولأنفسهم، وخلقوا عندي عقدة الخوف الأبدية من الكلاب بعد هذه الحادثة البسيطة.

1016909_527530040688639_7945665197478907309_n
 كلب في الشارع 

أصبحتُ لا أدخل بيتاً فيه كلب إلا إذا أخذت كافة الضمانات من صاحبه، ورأيته بأم عيني يمسكه أو يربطه. أما إذا رأيت كلباً في الشارع يقف شعر رأسي، ويجف حلقي وتتوقف قدماي عن المشي، لا خوفاً من الكلب بل خوفاً من الوهم الذي عيّشني الناس به بعد هذه الحادثة. وهكذا نحن في حياتنا اليومية، نعيش بدون معلومات عن الأشياء التي من حولنا، وفي الحال يتسرب الوهم ليملأ عقولنا وبعدها نتخذ قراراتنا فتكون على الأرجح قرارات خاطئة تؤثر على مستقبلنا.

الدنيا حكايات