المكان: الكويت
الزمان:1 نوفمبر 1990 إلى 11 يناير 1991

عندما كنت صغيراً في السن لفت انتباهي سائق تكسي من دون كل السواق يسمونه أستاذ صلاح!أما لماذا يُسمونه بهذا الإسم؟وكيف حصل على هذا اللقب دون غيره من السواق؟فلم أكن أعلم وبقي هذا السؤال في ذاكرتي لغزاً محيراً لي حاولت حله بنفسي فلم أفلح!وبقيت كذلك إلى أن سألت أحد المقربين منه فأجابني إجابة مُقتضبة وبدون تفاصيل (على غير عادتنا كعرب) وقال لي:إنه كان أستاذ مدرسة قبل أن يصبح سائقاً وبقي هذا اللقب ملازماً له حتى بعد أن ترك التعليم لأهله.

لم أفهم ما قاله لي من سألته بل خطر في بالي أن هذا الأستاذ ترقى إلى رتبة سائق لكن هذا الأستاذ السائق لم أسمعه ولو لمرة واحدة يتكلم عن مهنته السابقة كغيره من الناس الذين يتركون مهنهم هذا يعني أن هذا السائق لم يكن يحب مهنته وعلى الرغم من ذلك يريد أن يستفيد من لقبه هذا لأن لقب أستاذ كان يُطلق في ذلك الوقت على كل من يُريد الناس إحترامه أما في هذه الأيام فأصبحت كلمة أستاذ في آخر قائمة كلمات الاحترام وفي المستقبل القريب ستتصدر هذه الكلمة قائمة كلمات السخرية.

فكنت أراقب هذا الأستاذ السائق عن بعد وأقارنه بزملائه المدرسين الذين لا زالوا على رأس عملهم ممن كانوا يُدرسونني فأجد أن ملابسه أفضل من ملابسهم ويُحبه الطلاب ويطلبون وده لكنهم يهربون من زملائه المعلمين لو تصادف وجودهم في أحد الشوارع وهذا الأستاذ السائق كان قد تزوّج وبنى بيتاً جميلاً واستقل عن والده بينما زملائه حتى الآن عزّاباً يسكنون عند آبائهم وهو يقضي يومه جالساً على مقعد وفير وهم يقضون يومهم واقفين جنب الحائط.

وهو يراقب الطريق ذات المناظر الجميلة المُتجددة وهم يُراقبون ما يفعله الصغار من حيل يظنونها أنها تنطلي على الكبار هو يتنفس الهواء الطلق لكنهم يتنفسون غبار الطباشير هو يتناول طعام فطوره في بلد وغدائه في بلد آخر وزملائه يكدّون في أعمالهم بدون أي طعام أو شراب أما الفلوس فكانت تجري بين يديه وزملاؤه ينتظرون بضع دنانير في آخر الشهر بعد أن يكونوا قد إستدانوا مثلها أو أكثر منها فاستنتجت لوحدي أن الأستاذ لا يُرفع أو يُرقى إلى رتبة سائق كما كنت قد توهّمت سابقاً إنما الأستاذ هو الذي كان قد طلّق المهنة بالثلاث.

وبقي الأستاذ السائق هذا لغزاً في حياتي لم أناقشه مع أحد إلى أن أصبحت مُعلماً داهمته حرب الخليج فبعد أن فرطوا عقد الكويت كدولة لم يبق شيء على حاله إلا وتغيّر للأسوأ فالحياة في الكويت كانت تعتمد على الرواتب وبما أنه لا يوجد رواتب فقد تحوّل الجميع إلى تجار يبيعون ويشترون اللاشئ فكنت ترى مديراً لشركة كانت كبيرة يقف على الدّوار أو على جانب الطريق يعرض إطار سيارة للبيع وموظف طويل عريض يعرض علبة سجائر ليبيعها بالسيجارة وأستاذ كان يقام له ويُقعد يعرض لعبة أطفال للبيع.

أما أنا فلا أتقن التجارة ولا أميل إليها لأنني من أصول فلاحيّه ولا أذكر يوماً وأنا أعيش في بلدي أنني قمت بشراء التين مثلا أو بيعه إلا عندما عشت في المدينة فوجدتهم في المدينة يبيعون كل شيء وكنت قبل غزو الكويت أعتمد على مرتبي وما ينقصني كنت أعوضه من الدروس الخصوصية أما بعد إحتلال العراق للكويت فلا دروس خصوصية ولا راتب ولم تكن عندي مهنة أو حرفة لأعتاش منها كأهل دمشق مثلا فهم يفرضون على أولادهم أن يتعلموا حرفة أو مهنة منذ نعومة أظفارهم فوق تعليمهم الأكاديمي ليستخدموها عندما يجور عليهم الزمن فما الحل إذن؟.

وفي أحد الأيام بينما كنت أقود سيارتي في أحد الشوارع الخلفية لمدينة السالمية وكنت مُنهمكاً في إيجاد حل لمشكلتي المادية أشار لي شخص بيده للوقوف فوقفت له في الحال فقال:أتوصلني في طريقك إلى المكان الفلاني؟فقلت له:على الرحب والسعة تفضل واركب وحملته وسرت به إلى أن وصلنا المكان الذي يُريده فطلب مني الوقوف فوقفت.

وإذا به يُخرج من جيبه خمسة دنانير عراقية ويُعطنيها فجنّ جُنوني وقلت له:أيُعقل أن آخذ منك أجرة ونحن في بلدنا نساعد بعضنا بعضاً دون مقابل؟فقال:نحن الآن لسنا في بلدك أنت قضيت حاجتي ولولاك لدفعت عشرة دنانير لغيرك فأنت بذلك كنت قد وفرت عليّ خمسة دنانير وبذلك تكون قد ساعدتني زد على ذلك أن البنزين كان قد إرتفع سعره وأصبح شبه مفقود في تلك الأيام وأصر على أن يدفع لي ودفع.

وبعد أن نزل هذا الراكب من سيارتي قلت في نفسي:كل الناس تبيع وتشتري إلا أنا فلماذا لا أجرّب أن أكون سائق تكسي خصوصي؟وها هي الفرصة قد سنحت لي كي أحل اللغز القديم الذي بقي في ذاكرتي طيلة هذه السنين الطويلة وهكذا قد كان فقد تحولت منذ تلك اللحظة إلى سائق أجرة لكنني للأسف الشديد لم أفز بلقب الأستاذ على الرغم أنني أستاذ مثله أما لماذا؟لأنه هو الذي كان قد ترك المهنة أما أنا فالمهنة هي التي كانت قد تركتني.

وبدأت أبحث في الحال عن الركاب في أماكن تواجدهم وعندما كان يستوقفني أحدهم ويسألني:أتوصلني إلى المكان الفلاني؟فأقول له:نعم فيرد عليّ:كم تريد أجرة مقابل ذلك؟وكان هذا السؤال يُحرجني جداً فأقول له:إدفع ما تراه مناسباً لأنني فعلاً لم أكن أعرف قيمة الأجرة المطلوبة فأنا جديد على هذا الكار فكان منهم من يتقي الله ويدفع الأجرة وبالتي هي أحسن ومنهم من كان يدفع الأجرة لكن بعد أن يبخسني حقي وكان أغلب الناس في ذلك الوقت لا يدفعون لي الأجرة مُتذرّعين بالإحتلال مرة وبقلة ذات اليد مرة وبحجج واهية في معظم المرات.
