
كان الحصول على ماء للشرب، هو مشكلة المشاكل لسكان هذه القرية، (وأنا منهم)، قبل سنة 1957، أي قبل أن تقوم (النقطة الرابعة) بجرّ مياه نبع عين عادي، إلى منتصف هذه القرية، بواسطة مواسير معدنية، تحت تأثير الانسياب الطبيعي، وكان أهل هذه القرية قبل ذلك، يحصلون على ما يحتاجونه من الماء من نبع بير الدرج، بعد أن يقوموا بنقله، وتخزينه في بيوتهم في أوعية خاصة به، كانت قد انقرضت، أو في طريقها للإنقراض في هذه الأيام.

لهذا، فقد رأيت أن أكتب إلى جيل الآباء والأحفاد منكم، عن هذه الأوعية، التي كان الآباء والأجداد يستخدمونها في حياتهم اليومية لحفظ الماء، أكتبها لكم كي يرى هؤلاء الأحفاد بأم أعينهم، جانباً من جوانب المعاناة الكبيرة، التي كان الأجداد قد عايشوها في الماضي، الذي هو ليس ببعيد، ويحمدوا الله على النعم التي يعيشون بها في هذه الأيام، فكان من أهم هذه الأوعية التي عاشت معهم، وتعايشوا معها هي:
الـزيـر

وهو وعاء من الفخار، كمثري الشكل، كانوا يشترونه من بائع الفخار، الذي كان يحمل أوعيته الفخارية في (ﺳﺣﺎرتين)، ويبيعها للناس ﺑﺎﻟﻣﻘﺎﻳﺿﺔ، ﺣﻳﺙ يُبدّل ﻛﻝ زير من الفخار ﺑﻣﻠﺋه ﻗﻣﺣﺎً في الغالب، ﻭإذا تعذر وجود القمح فزيتوناً أو ﻋﺩﺳﺎً وقد يبيعه ﺑﺎﻟﻧﻘﻭﺩ لمن يستطيع ويقدر، وكانوا قلة من أهل هذه القرية، ويوضع هذا الزير عادة في ركن من أركان البيت الداخلية، بعد أن يُثبت جيداً على حامل من الحديد، ويوضع تحته وعاء لجمع المياه الراشحة منه، أو يوضع هذا الزير على الأرض مباشرة بعد عمل قناة خاصة لإخراج الماء الراشح منه، ويغطى بغطاء خشبي أو غطاء معدني أو بغطاء يصنع من القش.

وفي جميع الحالات يجب أن يكون لهذا الغطاء مقبض كي يحمل منه وفوق هذا المقبض أو بجانبه توضع كأس اسطوانية الشكل مصنوعة من التنك أو من التوتيا كي لا تنكسر من كثرة الاستعمال الشخصي تسمى الكيلة، ومنها يشرب جميع أفراد الأسرة، ويجب أن لا يفرغ هذا الزير من الماء، لا ليلاً ولا نهاراً، وملؤه بالماء منوط بعمل المرأة، وكان هذا الزير بمثابة كولر الماء في هذه الأيام، نظراً لما تحويه جدرانه من مسامات تسمح له بتبخير الماء، وبهذا يحافظ على الماء الذي يكون بداخله بارداً وخاصة في فصل الصيف.

الهِـشـّة: وهي وعاء تصنعه النسوة من تراب الحِوّر، الموجود في أماكن معينة من أرض القرية، يقمن بإحضاره، ثم عجنه وتشكيله، على شكل حبة الكمثرى، فهي تضيق من الأعلى، ومن الأسفل، وتتسع من الوسط، كي تحوي أكبر مخزون ممكن من الماء يحتاجه سكان البيت، ويقمن بعمل عروتين لها على جانبيها وباب واسع من أعلى أوسع من باب الزير لماذا؟ وبعد أن تجف قليلا يشوينها في النار ثم يقمن بتزيينها من الخارج برسومات وأشكال مختلفة، وتحاول كل امرأة أن تظهر ما بداخلها من ابداع في صنع هشتها، وتجميلها وبعد أن تملأ بالماء، تغطى بغطاء خشبي أو معدني يكون أوسع من باب الهشة كي يمسك بطرفه، عند الاستعمال.

ويستخرج الماء من داخلها بواسطة وعاء معدني أكبر بكثير من الكيلة، وفي العادة يكون تنكة، سمنة فارغة أو أي تنكة أخرى تشبهها وتوضع الهشة عادة في مكان خارج البيت يختار بعناية، بحيث تكون بعيدة عن الكسر، ولا يستخدم ماؤها للشرب، بل للأعمال المنزلية الأخرى، كالغسيل والاستحمام وتنظيف الأوعية المنزلية، وريّ المزروعات المهمة وغير ذلك.

الجرّة: وهي وعاء من الفخار، تضيق من الأعلى كثيراً، وتتسع من الأسفل كثيراً، ولها عروتان في الجزء العلوي منها، كي تحمل منها ويشترونها من بائع الفخار مقابل ملئها قمحاً أو زيتوناً، وتستخدمها النساء في نقل الماء من العين إلى البيت وتحملها المرأة فوق رأسها دون أن تمسك بها لأن يديها ستكون مشغولتان بعبائتها لتغطي بها وجهها عن الرجال في القرية.

لهذا فحمل المرأة للجرة يحتاج إلى مهارة وقوة واتزان ومن غير ذلك ستكسرها ومن تكسر جرتها سوف لن يكفيها حزنها عليها بل تحزن أيضاً لتندر نساء القرية منها والجرة كانت قد دخلت في التراث الفلسطيني منذ القدم ومنها خرج المثل طُب الجرّة على ثمّها بتطلع البنت على أمها ومش كل مرة بتسلم الجرة وهناك أغنية من التراث الفلسطيني تقول بعض أبياتها:كانك غريبة وهيلي من الدمع جرة … من العيد للعيد تايطلو عليكي مرة!ولم تغب الجرة عن المطرب توفيق النمري عندما غنى للبنت الريفية التي تحمل الجرة وبنت الجرة تسمى عسلية وهي جرة صغيرة تحملها الفتيات على رؤوسهن لمساعدة أمهاتهن وتدريبهن منذ الصغر على حمل الجرة في المستقبل عندما يكبرن ويتزوجن!.

الإبريق:وهو وعاء من الفخار يضيق من الأعلى ومن الأسفل كثيراً لكنه يتسع من الوسط وله فتحتان من الأعلى واحدة منهن صغيرة للشرب تسمى بعبوزة والأخرى أوسع منها تسمى بابه لملئه بالماء ومن شروط استخدام هذا الإبريق أن لا يضع الشخص شفتيه على بابه أو بعبوزته عند الشرب منه بل عليه أن يرفعه إلى أعلى بعيداً عن فمه ثم يشرب وتسمى هذه الطريقة في الشرب زغللة وعادة يستخدم هذا الابريق كل من يتقن عملية الزغللة ويمنع عادة على الأطفال الشرب منه!.

وعلينا هنا أن نذكر بشئ من التراث الطريف عن المرأة فعليها أن تختار مكاناً مناسباً لوضع الإبريق في بيتها ليكون بعيداً عن الكسر فالمرأة المعدلة تقوم بحفر جورة له في أرض الغرفة تختار هي مكانها بحيث تكون بعيدة عن متناول الأطفال وكانت في الماضي تُعيّر المرأة التي لا يكون في بيتها جورة لإبريقها فكانوا إذا أرادوا أن يقللوا من شأن امرأة ما يقولون عنها:إبريقها بلا جورة!وهذه العبارة وحدها تكفي لوصف تلك المرأة بالإهمال والتبذير أما إذا كبر الإبريق في الحجم فيتغير اسمه ليصبح الكُراز وهو إبريق كبير الحجم مصنوع من الفخار يأخذه المزارعون معهم عندما يذهبون للعمل الزراعي مجتمعين كقطف الزيتون أو عند الحصاد أو غيره من الأعمال الزراعية الأخرى ليشربوا منه الماء البارد.

وعادة ما يُغطى باب هذا الكراز بـ كريشة صنوبر كبيرة لتمنع الدبابير والصمل وباقي الحشرات من الدخول فيه بعد أن تربط هذه الكريشة بطرف خيط وطرفه الآخر بباب الإبريق خوفاً من ضياعها وهناك من النساء المْعَدّلات من تقوم بصنع غطاء لإبريقها أو كرازها بيديها باستخدام السنارة وخيط الصوف الملون أما إذا صغر حجم هذا الإبريق فيسمى (الكعكوز) وهو إبريق صغبر مصنوع من الفخار كان الأطفال الصغار يستخدمونه للشرب أو لنقل الماء من النبع إلى البيت وبه كانوا يتدربون أيضاً على طريقة الشرب من الإبريق مستقبلا!.

وقد يصنع الإبريق من التنك ويتغير شكله لكنه في هذه الحالة لن يستخدم للشرب وإنما لغسل الوجه واليدين وأريد هنا أن أذكر أنه لم تكن في بيوتنا مغاسل وحنفيات بل كانوا يأتون بطشت كبير ويضعونه أمام الضيف بعد أن يجلس القرفصاء ويمد يديه ورأسه فوق هذا الطشت ويقوم أحد الصبية باحضار قطعة من الصابون غير مستعملة قبل ذلك وفوق كتفه بشكير فيتناول الضيف الصابونة ويضعها بين يديه ويمدهما في داخل الطشت ويصب الصبي عليهما الماء وبعد أن يغسل الضيف يديه وفمه يتناول البشكير من الصبي وينشف الضيف يداه ووجهه بعدها يعيد للصبي البشكير ويقول له:في عرسك ويجيبه الصبي:في حجك!.

الشربة:وهي وعاء من الفخار تضيق من الأعلى وتتسع من الأسفل كالإبريق تماماً لكن ما يميزها عن الإبريق هو وجود رقبة طويلة لها ولا عروة لها ولها فتحة واحدة من الأعلى لملئها بالماء ومنها أيضاً تتم عملية الشرب ويسمح لمن يشرب منها أن يضع شفتيه على بابها وتتفنن النساء في صنع غطاء لهذه الشربة لأنها عادة ما توضع في غرفة الضيوف لهذا فيحكن هذا الغطاء بالسنارة بأيديهن ثم يضفن إليه بعضاً من الخرز الملون ويجعلن له ممسك من أعلاه كي يحمل بهذا الممسك ولا يتسخ من كثرة الاستعمال ولها مكان في البيت بعد أن توضع تحتها مدورة من نبات الفقوع أو من القماش لمنعها من الوقوع والكسر!.

السِّعِنْ:وهو وعاء من الجلد له فتحتان واحدة لدخول الماء والأخرى للشرب منه أما الفتحة الأولى فلها غطاء متحرك مربوط بها لا يفتح إلا عندما يريدون ملأها بالماء والفتحة الثانية أقل حجماً من الأولى ويغلقها عود من الخشب مربوط بها ويدخل بإحكام وعند عملية الشرب يُسحب هذا العود وبعد أن يشرب الشخص يُعيده إلى مكانه أما كيف يصنعون هذا السعن؟فعندما يذبحون سخلا أو خروفاً يقومون بتنظيف جلده من الشعر ويقومون بدبغه فيصبح ناعماً كالحرير ويستخدمونه في نقل وحفظ الماء للشرب ويمتاز بسهولة حمله ومرونته فهو غير قابل للكسر مثل غيره من الأوعية الأخرى السابق ذكرها.

المطّارة:وهو وعاء مصنوع من قماش الخيش أو القنب يخيطونه على شكل مستطيل ويدخلون فيه ماسورة صغيرة لها غطاء مربوط فيها لتكون مخرجاً للماء وكانوا يملؤنها بالماء فيرشح منه جزء قليل وينتشر على سطحها وبعد أن يتبخر يجعل الماء الذي بداخلها بارداً وتمتاز هذه المطارة عن غيرها من أوعية حفظ الماء بسهولة حملها وهي غير قابلة للكسر أيضاً وقد تعلق على الكتف مثلاً أو على ظهر الدابة.

المُقُر:وهو حفرة في الصخر إما أن تكون محفورة أصلاً أو هم يقومون بحفرها بطرقهم الخاصة ويجب أن يكون المقر موجوداً في كل منطقة من المناطق التي يعملون بها أعمالا زراعية وقبل أن يأتي فصل الشتاء كانوا يقومون بتنظيف هذه المقور كي تملأها مياه الأمطار وبهذا يرتاحون من حمل الماء إلى أماكن عملهم في المناطق المحيطة بقريتهم والتي يذهبون إليها وقد يكون هذا المقر صغير الحجم فينتهي ماؤه في فصل الربيع أو أن يكون كبير الحجم فيشرب منه الناس في فصل الصيف أيضاً والأهم من ذلك كله أنهم كانوا يملؤنه بالماء لتشرب منه دوابهم.

الجهير:هو عبارة عن أرض منخفضة يتجمع فيها ماء المطر في فصل الشتاء وقد يتسع الجهير ويكبر وقد يضيق ويصغر وذلك حسب ميلان الأرض في تلك المنطقة التي يوجد بها ويبقى فيه الماء أكثر من المقر لأن كمية الماء الموجودة به أكثر والجهير لا يصنعه صانع بل تضاريس الأرض هي التي تصنعه وغالباً ما يكون بجانب صخرة أو جدار استنادي يمنع جريان الماء منه وأكثر ما يكون في الشعاب والوديان.

البركة:هي حفرة يقوم الناس بحفرها أمام نبع جار أو شعب أو واد أو قناة ليجمعوا فيها الماء لاستخدامه في الشرب أو لأعمال البناء وقد تكون هذه البركة على شكل متوازي مستطيلات أو تكون على شكل حبة الإجاص عندها لا بد من وجود دلو لسحب الماء ومن هذه الأماكن الثلاث:المقر والجهير والبركة كان الناس يشربون ويسقون منها دوابهم وتشرب الطيور والحيوانات البرية التي كانت تعيش معهم.
